فصل 
واعلم أنه ليس كل أحد من أهل النظر والاستدلال خبيرا بالمنقولات  [ ص: 420 ] والتمييز بين صدقها وكذبها ، وصوابها وخطئها ، فضلا عن العامة ، وقد علم من حيث الجملة أن المنقول منه صدق ومنه كذب ، وليس لهم خبرة أهل المعرفة علماء الحديث ، فهؤلاء يحتاجون في الاستدلال على الصدق والكذب إلى طرق أخرى . 
والله سبحانه الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ، أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، الذي أخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، يهدي من يشاء من عباده بما تيسر له [1] من الأدلة التي تبين له الحق من الباطل ، والصدق من الكذب . 
كما في الحديث الصحيح الإلهي : " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم  " 
[2] ولهذا تنوعت الطرق التي بها يعلم الصدق من الكذب حتى في أخبار المخبر عن نفسه  بأنه [3] رسول الله ، وهو دعوى النبوة . فالطرق [4] التي يعلم بها صدق الصادق ، وكذب المتنبئ الكذاب كثيرة متنوعة ، كما قد نبهنا عليه [5] في غير هذا الموضع ، وكذلك ما يعلم به صدق المنقول عن الرسول وكذبه يتعدد ويتنوع ، وكذلك ما به يعلم صدق الذين حملوا العلم ، فإن أهل العلم يعلمون صدق مثل  مالك  ،  والثوري  ،  وشعبة  ، ويحيى  [ ص: 421 ] بن سعيد  ،  وعبد الرحمن بن مهدي  ،  وأحمد بن حنبل  ،  والبخاري  ،  ومسلم  ،  وأبي داود  ، وأمثال هؤلاء علما يقينا ، يجزمون بأنهم لا يتعمدون الكذب في الحديث ، ويعلمون كذب محمد بن سعيد المصلوب  ، وأبي البختري القاضي  [6] ، وأحمد بن عبد الله الجويباري  ، وعتاب بن إبراهيم بن عتاب  ، وأبي داود النخعي  ، ونحوهم ممن يعلمون أنهم يتعمدون [7] الكذب . 
وأما الخطأ فلا يعصم من الإقرار عليه إلا نبي ، لكن أهل الحديث يعلمون أن مثل  الزهري  ،  والثوري  ،  ومالك  ، ونحوهم من أقل الناس غلطا في أشياء خفيفة لا تقدح في مقصود الحديث ، ويعرفون رجالا دون هؤلاء يغلطون أحيانا ، والغالب عليهم الحفظ والضبط ، ولهم دلائل يستدلون بها على غلط الغالط . 
ودون هؤلاء قوم كثير غلطهم ، فهؤلاء لا يحتجون بهم إذا انفردوا ، لكن يعتبرون بحديثهم ويستشهدون به ، بمعنى أنهم ينظرون فيما رووه : هل رواه غيرهم ؟ فإذا تعددت الطرق واللفظ واحد مع العلم بأنهم لم يتواطئوا ، ولا يمكن في العادة اتفاق الخطأ في مثل ذلك كان هذا مما يدلهم على صدق الحديث   . 
ولهذا قال  أحمد   : أكتب حديث الرجل لأعتبر به ، مثل ابن لهيعة  ونحوه ، فإنه كان عالما دينا قاضيا لكن احترقت كتبه فصار يحدث بعد  [ ص: 422 ] ذلك بأشياء دخل [8] فيها غلط لكن أكثر ذلك صحيح يوافقه عليها الثقات كالليث  وأمثاله . 
وأهل الحديث يعلمون صدق متون الصحيحين ، ويعلمون كذب الأحاديث الموضوعة  التي يجزمون بأنها كذب بأسباب عرفوا بها ذلك ، من شركهم فيها علم ما علموه ، ومن لم يشركهم لم يعلم ذلك ، كما أن الشهود الذين يتحملون الشهادة ، ويؤدونها يعرف من جربهم وخبرهم ( صدق ) صادقهم و ( كذب ) كاذبهم 
[9] وكذلك أهل المعاملات في البيع والإجارة يعلم من جربهم وخبرهم صادقهم وكاذبهم ، وأمينهم وخائنهم ، وكذلك الأخبار قد يعلم الناس صدق بعضها ، وكذب بعضها ، ويشكون في بعضها . 
وباب المعرفة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقواله وأفعاله ، وما ذكره من توحيد ، وأمر ونهي ، ووعد ووعيد ، وفضائل لأعمال أو لأقوام [10] ، أو أمكنة أو أزمنة [11] ، ومثالب لمثل ذلك ، أعلم الناس به أهل العلم بحديثه  الذين اجتهدوا في معرفة ذلك وطلبه من وجوهه ، وعلموا أحوال نقلة ذلك ، وأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، وجمعوا بين رواية هذا وهذا وهذا ، فعلموا صدق الصادق ، وغلط الغالط ، وكذب الكاذب . 
وهذا علم أقام الله له من حفظ به [12] على الأمة ما حفظ من دينها ، وغير  [ ص: 423 ] هؤلاء لهم تبع [13] فيه : إما مستدل بهم ، وإما مقلد لهم . كما أن الاجتهاد في الأحكام أقام الله له رجالا اجتهدوا فيه حتى حفظ الله بهم على الأمة ما حفظ من الدين  ، وغيرهم لهم [14] تبع فيه : إما مستدل بهم ، وإما مقلد لهم . 
مثال ذلك : أن خواص أصحاب محمد  صلى الله عليه وسلم أعلم به ممن هو دونهم في الاختصاص مثل  أبي بكر   وعمر  ،  وعثمان  ،  وعلي  ،  وطلحة  ،  والزبير  ،  وعبد الرحمن بن عوف  ، وسعد  ،  وأبي بن كعب  ،  ومعاذ بن جبل  ،  وابن مسعود  ،  وبلال  ،  وعمار بن ياسر  ،  وأبي ذر الغفاري  ،  وسلمان  ،  وأبي الدرداء  ،  وأبي أيوب الأنصاري  ،  وعبادة بن الصامت  ،  وحذيفة  ،  وأبي طلحة  ، وأمثال هؤلاء من السابقين الأولين من المهاجرين  والأنصار   : هم أكثر اختصاصا به ممن ليس مثلهم ، لكن قد يكون بعض الصحابة أحفظ وأفقه من غيره ، وإن كان غيره أطول صحبة ، وقد يكون أيضا أخذ عن بعضهم من العلم أكثر مما أخذ عن غيره لطول عمره ، وإن كان غيره أعلم منه ، كما أخذ عن  أبي هريرة  ،  وابن عمر  ،  وابن عباس  ،  وعائشة  ،  وجابر  ،  وأبي سعيد  من الحديث أكثر مما أخذ عمن هو أفضل منهم [15] ،  كطلحة  ،  والزبير   ( ونحوهم ) 
[16] وأما الخلفاء الأربعة فلهم في تبليغ كليات الدين ، ونشر أصوله ، وأخذ الناس ذلك عنهم ، ما ليس لغيرهم  ، وإن كان يروى عن صغار الصحابة  [ ص: 424 ] من الأحاديث المفردة أكثر مما يروى [17] عن بعض الخلفاء ، فالخلفاء لهم عموم التبليغ وقوته التي لم يشركهم فيها غيرهم ، ثم لما قاموا بتبليغ ذلك شاركهم فيه غيرهم ، فصار متواترا كجمع  أبي بكر   وعمر  القرآن في الصحف [18] ، ثم جمع  عثمان  له في المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار ، فكان الاهتمام بجمع القرآن ، وتبليغه أهم مما سواه . 
وكذلك تبليغ شرائع الإسلام إلى أهل الأمصار ، ومقاتلتهم [19] على ذلك ، واستنابتهم [20] في ذلك الأمراء والعلماء ، وتصديقهم لهم فيما بلغوه عن الرسول ، فبلغ من أقاموه من أهل العلم حتى صار الدين منقولا نقلا عاما متواترا ظاهرا معلوما قامت به الحجة ، ووضحت به المحجة ، وتبين به أن هؤلاء كانوا خلفاءه المهديين الراشدين ، الذين خلفوه في أمته علما وعملا . 
وهو صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى في حقه : ( والنجم إذا هوى  ما ضل صاحبكم وما غوى  وما ينطق عن الهوى  إن هو إلا وحي يوحى   ) ( سورة النجم : 1 - 4 ) فهو ما ضل وما غوى ، وكذلك خلفاؤه الراشدون ، الذين قال فيهم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ  " [21] فإنهم خلفوه في ذلك ، فانتفى عنهم بالهدى الضلال ، وبالرشد الغي . 
 [ ص: 425 ] وهذا هو الكمال في العلم والعمل ، فإن الضلال عدم العلم ، والغي اتباع الهوى ، ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا : ( اهدنا الصراط المستقيم  صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين   ) ( سورة الفاتحة : 6 ، 7 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اليهود  مغضوب عليهم ، والنصارى  ضالون  " [22] فالمهتدي الراشد الذي هداه الله الصراط المستقيم فلم يكن من أهل الضلال الجهال ، ولا من أهل الغي المغضوب عليهم . 
والمقصود هنا أن بعض الصحابة أعلم بالرسول من بعض  ، وبعضهم أكثر تبليغا لما علمه من بعض ، ثم قد يكون عند المفضول علم قضية معينة لم يعلمها الأفضل فيستفيدها منه ، ولا يوجب ذلك أن يكون هذا أعلم منه مطلقا ، ولا أن هذا الأعلم يتعلم من ذلك المفضول ما امتاز به . 
ولهذا كان الخلفاء يستفيدون من بعض الصحابة علما لم يكن عندهم ، كما استفاد  أبو بكر  رضي الله عنه علم ميراث الجدة [23] من  محمد بن مسلمة  [24] ،  والمغيرة بن شعبة  [25] واستفاد  عمر  رضي الله عنه علم دية  [ ص: 426 ] الجنين والاستئذان وتوريث المرأة من دية زوجها ، وغير ذلك من غيره ، واستفاد  عثمان  رضي الله عنه حديث مقام المتوفى عنها في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله من غيره ، واستفاد  علي  رضي الله عنه حديث صلاة التوبة من غيره . 
وقد يخفى ذلك العلم عن الفاضل حتى يموت ولم يعلمه ، ويبلغه من هو دونه ، وهذا كثير ليس هذا موضعه لكن المقصود أن نبين طرق العلم ، فالصحابة الذين أخذ الناس عنهم العلم بعد الخلفاء الأربعة : مثل  أبي بن كعب  ،  وابن مسعود  ،  ومعاذ ( بن جبل )  [26] ،  وأبي الدرداء  ،  وزيد بن ثابت  ،  وحذيفة  ،  وعمران بن حصين  ، وأبي موسى   وسلمان  ،  وعبد الله بن سلام  ، وأمثالهم . 
وبعد هؤلاء : مثل  عائشة  ،  وابن عباس  ،  وابن عمر  ، وعبد الله بن عمرو  [27] ،  وأبي سعيد ،   وجابر  ، وغيرهم . 
ومن التابعين : مثل الفقهاء وغيرهم ،  وسعيد بن المسيب  ،  وعروة بن الزبير  ،  وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة  ،  والقاسم بن محمد  ،  وسالم بن عبد الله  ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام  ، وعلي بن الحسين  ،  وخارجة بن زيد بن ثابت  ،  وسليمان بن يسار  ، ومثل علقمة  ، والأسود  ،  وشريح القاضي  ،  وعبيدة السلماني  ،  والحسن البصري  ،  ومحمد بن سيرين  ، وأمثالهم . 
ثم من بعد هؤلاء مثل  الزهري  ، وقتادة  ،  ويحيى بن أبي كثير   [ ص: 427 ] ومكحول الشامي  ،  وأيوب السختياني  ،  ويحيى بن سعيد الأنصاري  ، ويزيد بن أبي حبيب المصري  ، وأمثالهم . 
ثم ( من ) [28] بعد هؤلاء : مثل  مالك  ،  والثوري  ،  وحماد بن زيد  ،  وحماد بن سلمة ،   والليث  ،  والأوزاعي  ،  وشعبة  ، وزائدة  ،  وسفيان بن عيينة  ، وأمثالهم . 
ثم من بعد هؤلاء : مثل  يحيى القطان  ،  وعبد الرحمن بن مهدي  ،  وابن المبارك  ،  وعبد الله بن وهب  ،  ووكيع بن الجراح  ،  وإسماعيل بن علية  ،  وهشيم بن بشير  
[29] وبعد هؤلاء :  البخاري  ،  ومسلم  ،  وأبو داود  ، وأبو زرعة  ، وأبو حاتم  ،  وعثمان بن سعيد الدارمي  ، ( وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي )  [30] ، ومحمد بن مسلم بن وارة  ، وأبو بكر الأثرم  ،  وإبراهيم الحربي  ، وبقي [31] بن مخلد الأندلسي  ، ومحمد بن وضاح   . 
 [ ص: 428 ] ومثل :  أبي عبد الرحمن النسائي  ،  والترمذي  ،  وابن خزيمة  ،  ومحمد بن نصر المروزي  ،  ومحمد بن جرير الطبري  ،  وعبد الله بن أحمد بن حنبل  ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم   . 
ثم ( من ) [32] بعد هؤلاء مثل :  أبي حاتم البستي  ، وأبي بكر النجاد  [33] ، وأبي بكر النيسابوري  ، وأبي قاسم الطبراني  ،  وأبي الشيخ الأصبهاني  ، وأبي أحمد العسال الأصبهاني  ، وأمثالهم . 
ثم من بعد هؤلاء : مثل  أبي الحسن الدارقطني  ،  وابن منده  ،  والحاكم  [34] أبي عبد الله  ، وعبد الغني بن سعيد  ، وأمثال هؤلاء ممن لا يمكن إحصاؤهم . 
فهؤلاء وأمثالهم أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم ، وإن [35] كان في هؤلاء من هو أكثر رواية ، وفيهم من هو أكثر منهم معرفة بصحيحه من سقيمه ، ومنهم من هو أفقه فيه من غيره . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					