فصل
في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول .
منها : أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة ، مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة ، واتبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة فكانوا مرتدين لإيمانهم بهذا المتنبئ الكذاب ، وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر كان مجوسيا كافرا ، وأن أبا الهرمزان كان مجوسيا أسلم ، وأن أبا بكر * كان يصلي بالناس مدة مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ويخلفه بالإمامة بالناس لمرضه ، وأن أبا بكر * [1] وعمر دفنا في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال كبدر ثم أحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف ، والتي لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها ، وما نزل من القرآن [ ص: 438 ] في الغزوات كنزول الأنفال بسبب [2] بدر ، ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ، ونزول أولها بسبب نصارى نجران ، ونزول سورة الحشر بسبب بني النضير ، ونزول الأحزاب بسبب الخندق ، ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ، ونزول براءة بسبب غزوة تبوك ، وغيرها وأمثال ذلك .
فإذا روي في الغزوات - وما يتعلق بها - ما يعلم أنه خلاف الواقع علم أنه كذب ، مثل ما يروي هذا الرافضي ، وأمثاله من الرافضة وغيرهم من الأكاذيب [3] الباطلة الظاهرة في الغزوات ، كما تقدم التنبيه عليه ، ومثل أن يعلم نزول القرآن في أي وقت كان ، كما يعلم أن سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء [4] ، والمائدة ، والأنفال ، وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة ، وأن الأنعام ، والأعراف ، ويونس ، وهودا ، ويوسف ، والكهف ، وطه ، ومريم ، واقتربت الساعة ، وهل أتى على الإنسان ، وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة ، وأن المعراج كان بمكة ، وأن الصفة كانت بالمدينة ، وأن أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكونوا ناسا معينين ، بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين ، وممن دخل فيهم سعد بن أبي وقاص ، وأبو هريرة ، وغيرهما من صالحي المؤمنين ، وكالعرنيين [5] الذين ارتدوا عن [ ص: 439 ] الإسلام فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وألقاهم في الحرة يستسقون [6] ، فلا يسقون [7] ، وأمثال ذلك من الأمور المعلومة .
فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم أنه كذب ، ومن الطرق التي يعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم أنه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعي على نقله ، فإنه من المعلوم أنه لو أخبر الواحد ببلد عظيم بقدر بغداد ، والشام ، والعراق لعلمنا كذبه في ذلك ; لأنه [8] لو كان موجودا لأخبر به الناس .
[ ص: 440 ] وكذلك لو أخبرنا بأنه تولى [9] رجل بين عمر وعثمان ، أو تولى بين عثمان وعلي ، أو أخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في العيد ، أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء ، أو أنه كان يقام بمدينته يوم الجمعة أكثر من جمعة واحدة ، أو يصلى يوم العيد أكثر من عيد واحد ، أو أنه كان يصلي العيد بمنى يوم العيد ، أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه ، أو أنه [10] كان يجمع بين الصلاتين بمنى ، كما كان يقصر ، أو أنه فرض صوم شهر آخر غير رمضان ، أو أنه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل ، أو أنه فرض حج بيت آخر غير الكعبة ، أو أن القرآن عارضه طائفة من العرب أو غيرهم بكلام يشابهه ، ونحو هذه الأمور - لكنا نعلم كذب هذا الكاذب ، فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها ، فإن هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعي على نقلها عامة لبني آدم ، وخاصة لأمتنا شرعا ، فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم ، فضلا عن أن تتواتر ، علم أنها كذب .
ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علي ، فإنا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة ، فإن هذا النص لم ينقله أحد ( من أهل العلم ) بإسناد [11] صحيح ، فضلا عن أن يكون متواترا ، ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد [12] [ ص: 441 ] الخلفاء [13] مع تنازع الناس في الخلافة ، وتشاورهم [14] فيها يوم السقيفة ، وحين موت عمر ، وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة ، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على علي ، فمن المعلوم * أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على علي نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون ، لكان من المعلوم * [15] بالضرورة أنه لا بد أن ينقله الناس نقل مثله ، وأنه لا بد أن يذكره لكثير [16] من الناس ، بل أكثرهم ، في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر ، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضي انتفاء ما يعلم أنه ملزوم ، ونظائر ذلك كثيرة .
ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق وأحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه ، وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه .
والكلام مع الشيعة أكثره مبني على النقل ، فمن كان خبيرا بما وقع ، وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقيني علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا [17] ، ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية ( إلا ) [18] ما يوجب العلم بفضل [19] الشيخين وصحة إمامتهما ، وكذب ما تدعيه الرافضة .
[ ص: 442 ] ثم كل من كان أعلم بالرسول وأحواله ، كان أعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم ، ممن يدعي نصا خفيا ، وأن [20] عليا كان أفضل من الثلاثة ، أو يتوقف في التفضيل ، فإن هؤلاء إنما وقعوا في الجهل المركب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار .


