الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها  

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قال قائل: أين الكلام الذي هذا جوابه، فإنا لا نراه في سورة البقرة؟

                                                                                                                                                                                                                                      فذكر لنا أن اليهود لما قال الله: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا قال أعداء الله: وما هذا من الأمثال؟ وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا - إلى قوله- ضعف الطالب والمطلوب لذكر الذباب والعنكبوت فأنزل الله: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فالذي فوقها يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب. ولو جعلت في مثله من الكلام فما فوقها تريد أصغر منها لجاز ذلك. ولست أستحسنه؛ لأن البعوضة كأنها غاية في الصغر، فأحب إلي أن أجعل فما فوقها أكبر [ ص: 21 ] منها. ألا ترى أنك تقول: يعطى من الزكاة الخمسون فما دونها، والدرهم فما فوقه فيضيق الكلام أن تقول: فوقه فيهما أو دونه فيهما. وأما موضع حسنها في الكلام فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك يريد المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخر: وفوق ذاك، يريد بكليهما معنى أكبر. فإذا عرفت أنت الرجل فقلت: دون ذلك فكأنك تحطه عن غاية الشرف أو غاية البخل. ألا ترى أنك إذا قلت: إنه لبخيل وفوق ذاك، تريد فوق البخل، وفوق ذاك، وفوق الشرف. وإذا قلت: دون ذاك، فأنت رجل عرفته فأنزلته قليلا عن درجته. فلا تقولن: وفوق ذاك، إلا في مدح أو ذم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء: وأما نصبهم بعوضة فيكون من ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      أولها: أن توقع الضرب على البعوضة، وتجعل "ما" صلة كقوله: عما قليل ليصبحن نادمين [يريد عن قليل] المعنى -والله أعلم- إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا.

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الآخر: أن تجعل "ما" اسما، والبعوضة صلة فتعربها بتعريب "ما" . وذلك جائز في "من" و "ما" لأنهما يكونان معرفة في حال ونكرة في حال، كما قال حسان بن ثابت :


                                                                                                                                                                                                                                      فكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبيء محمد إيانا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 22 ] [قال الفراء: ويروى:


                                                                                                                                                                                                                                      ...... على من غيرنا

                                                                                                                                                                                                                                      ]

                                                                                                                                                                                                                                      والرفع في بعوضة هاهنا جائز؛ لأن الصلة ترفع، واسمها منصوب ومخفوض.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الوجه الثالث -وهو أحبها إلي- فأن تجعل المعنى على: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها. والعرب إذا ألقت "بين" من كلام تصلح "إلى" في آخره نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما بـ "بين" والآخر بـ "إلى" . فيقولون: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملا، وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما . يراد به ما بين قرنها إلى قدمها.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن تجعل القرن والقدم معرفة، فتقول: هي حسنة ما قرنها فقدمها.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا لم تصلح "إلى" في آخر الكلام لم يجز سقوط "بين" من ذلك أن تقول: داري ما بين الكوفة والمدينة ، فلا يجوز أن تقول: داري ما الكوفة فالمدينة ؛ لأن "إلى" إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كله من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زبالة إلى الثعلبية. ولا تصلح الفاء مكان الواو فيما لا تصلح فيه "إلى" كقولك: دار فلان بين الحيرة فالكوفة محال. وجلست بين عبد الله فزيد محال، إلا أن يكون مقعدك آخذا للفضاء الذي بينهما. وإنما امتنعت الفاء من الذي لا تصلح فيه "إلى"؛ لأن الفعل فيه لا يأتي فيتصل، و"إلى" [ ص: 23 ] محتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطرفة عين، وإن قصر قدر الذي بينهما مما يوجد، فصلحت الفاء في "إلى" لأنك تقول: أخذ المطر أوله فكذا وكذا إلى آخره. فلما كان الفعل كثيرا شيئا بعد شيء في المعنى كان فيه تأويل من الجزاء. ومثله أنهم قالوا: إن تأتني فأنت محسن. ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن فرضوا بالفاء جوابا في الجزاء ولم تصلح الواو.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الكسائي: سمعت أعرابيا ورأى الهلال فقال: الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك. يريد ما بين إهلالك إلى سرارك فجعلوا النصب الذي كان يكون في "بين" فيما بعده إذا سقطت ليعلم أن معنى "بين" مراد. وحكى الكسائي عن بعض العرب: الشنق ما خمسا إلى خمس وعشرين. يريد ما بين خمس إلى خمس وعشرين. والشنق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل، والأوقاص في البقر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية