الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي صلى الله عليه أن أعرابيا جاءه فقال: علمني عملا يدخلني الجنة،  قال: "لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة، وفك الرقبة". قال: أو ليسا واحدا، قال: "لا، عتق النسمة أن تفرد بعتقها. وفك الرقبة أن تعين في ثمنها. والمنيحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم".

حدثنيه عبد العزيز بن محمد، نا إسحاق بن إبراهيم، ثنا سويد، أنا ابن [ ص: 705 ] المبارك، عن عيسى بن عبد الرحمن، حدثني طلحة اليامي، حدثني عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب.

قوله: أقصرت الخطبة،  أي جئت بها قصيرة. يقال: أكبر الرجل إذا جاء بالكبيرة، وأصغر إذا جاء بالصغيرة، ومثله أذكرت المرأة إذا جاءت بولد ذكر، وآنثت إذا جاءت بأنثى، وأدهت إذا جاء ولدها داهيا، وأحمقت من الحمق، وأكاست من الكيس، قال الشاعر:


فلو كنتم لكيسة أكاست وكيس الأم أكيس للبنينا

وكذلك قوله: أعرضت المسألة: معناه جئت بها عريضة. والعرض عند العرب السعة. قال الله تعالى: وجنة عرضها السماوات والأرض .

يريد -والله أعلم- سعتها، دون العرض الذي هو خلاف الطول، قال الشاعر:


كأن بلاد الله وهي عريضة     على الخائف المطلوب كفة حابل

وقال مالك بن الريب:


ولا تحسداني بارك الله فيكما     على الأرض ذات العرض أن توسعا ليا

وأفعل ينصرف في الكلام على وجوه. يقال: أفعلت الشيء بمعنى [ ص: 706 ] عرضته للفعل كقولك: أقتلت الرجل إذا عرضته للقتل، وتكون أفعلت بمعنى أصابني ذلك، كقولك: أقحطت من القحط، وأسنت من السنة، ويكون أفعل بمعنى حان ذلك منه كما قيل أركب المهر، وأقطفت الثمرة. ويكون أفعلت الشيء بمعنى وجدته كذلك كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا، وأبخلته إذا وجدته بخيلا.

وأما قوله: "أعتق النسمة، وفك الرقبة"،  وسؤال الأعرابي مستفرقا بينهما، فقد سبق من بيانه ما وقع به الفصل بينهما لمن تأمله، وإيضاح ذلك: أن الإعتاق في كلام العرب إنهاء الشيء غايته.

أخبرني أبو عمر، أنا أبو العباس ثعلب، عن ابن الأعرابي قال: تقول العرب للشيء إذا بلغ الغاية: قد عتق، قال: وقال أعرابي: هذا أوان عتقت الشقراء، أي سبقت، ومعناه بلغت غاية الشأو. قال ويقال: جارية عاتق إذا أدركت مدرك النساء. وإعتاق النسمة: حقيقته إعتاق ذي النسمة، والنسمة النفس، وسميت نسمة لتنسمها الريح.

فإعتاق النسمة إنما هو إطلاقها من الملك، وتخليصها من الرق، وأما الفك فإنما هو كالحل والفتح. يقال فككت يد الرجل إذا فتحتها عما فيها، وسقط فلان فانفكت رجله أي انخلعت من غير أن تبين من المفصل، فالفك على هذا إنما يكون بمنزلة الإرخاء من الوثاق والتنفيس عنه، وهو معنى قوله صلى الله عليه: "فك الرقبة أن تعين في ثمنها":  أي تعين غيرك فتشاركه فيها ليس بأن تنفرد بها [ ص: 707 ] وفي هذا من الفقه أن الكلمة من خطاب الشريعة إذا أمكن حملها على الإفادة لم تحمل على التكرار والإعادة، ولذلك طالبه الأعرابي: بالفرق بينهما، وراجعه الكلام فيهما، والمنيحة الوكوف: وهي الغزيرة التي يكف درها، أي يقطر. والفيء على ذي الرحم الكاشح: العطف عليه والرجوع إلى بره.

التالي السابق


الخدمات العلمية