الفصل الثالث  
فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة ، والمبرة  
من ذلك قوله - تعالى - :  عفا الله عنك لم أذنت لهم       [ التوبة : 43 ] . قال  أبو محمد مكي     : قيل هذا افتتاح كلام بمنزلة : أصلحك الله ، وأعزك الله .  
وقال   عون بن عبد الله     : أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب . حكى  السمرقندي  عن بعضهم أن معناه : عافاك الله يا سليم القلب لم أذنت لهم ؟ . قال : ولو بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله ،  لم أذنت لهم      [ التوبة : 43 ] لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام ، لكن الله - تعالى - برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه ، ثم قال له : لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب . وفي هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب . ومن إكرامه إياه وبره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب . قال نفطويه : ذهب ناس إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معاتب بهذه الآية ، وحاشاه من ذلك ، بل كان مخيرا فلما أذن لهم أعلمه الله - تعالى - أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، وأنه لا حرج عليه في الإذن لهم .  
قال الفقيه القاضي - وفقه الله - يجب على المسلم المجاهد نفسه ، الرائض بزمام الشريعة خلقه أن يتأدب بأدب القرآن في قوله وفعله ، ومعاطاته ، ومحاوراته ، فهو عنصر المعارف الحقيقية ، وروضة الآداب الدينية ، والدنيوية ، وليتأمل هذه الملاطفة العجيبة في السؤال من رب الأرباب ، المنعم على الكل ، المستغني عن الجميع ، ويستشير ما فيها من الفوائد ، وكيف      [ ص: 131 ] ابتدأ بالإكرام قبل العتب ، وآنس بالعفو قبل ذكر الذنب إن كان ثم ذنب . وقال - تعالى - :  ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا      [ الإسراء : 74 ] الآية .  
قال بعض المتكلمين : عاتب الله - تعالى - الأنبياء - عليهم السلام - بعد الزلات ، وعاتب نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل وقوعه ، ليكون بذلك أشد انتهاء ، ومحافظة لشرائط المحبة ، وهذه غاية العناية . ثم انظر كيف بدأ بثباته ، وسلامته قبل ذكر ما عتبه عليه ، وخيف أن يركن إليه ، ففي أثناء عتبه براءته ، وفي طي تخويفه تأمينه وكرامته . ومثله قوله - تعالى - :  قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك      [ الأنعام : 33 ] الآية .  
قال  علي     - رضي الله عنه - : قال  أبو جهل  للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب ما جئت به ، فأنزل الله - تعالى - :  فإنهم لا يكذبونك      [  الأنعام : 33 ] الآية .  
وروي  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كذبه قومه حزن ، فجاءه جبريل - عليه السلام - فقال : ما يحزنك ؟ قال : كذبني قومي ! فقال : إنهم يعلمون أنك صادق ، فأنزل الله - تعالى - الآية     . ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ ، من تسليته - تعالى - له - صلى الله عليه وسلم - ، وإلطافه في القول ، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم ، وأنهم غير مكذبين له ، معترفون بصدقه قولا ، واعتقادا ، وقد كانوا يسمونه قبل النبوة الأمين ، فدفع بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب ، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين ، فقال - تعالى - :  ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون      [ الأنعام : 33 ] الآية . وحاشاه من الوصم ، وطرقهم بالمعاندة بتكذيب الآيات حقيقة الظلم ، إذ الجحد إنما يكون ممن علم الشيء ثم أنكره ، كقوله - تعالى - :  وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا      [ النمل : 14 ] . ثم عزاه ، وآنسه بما ذكره عمن قبله ، ووعده النصر بقوله - تعالى - :  ولقد كذبت رسل من قبلك      [ الأنعام : 34 ] الآية .  
فمن قرأ لا يكذبونك بالتخفيف ، فمعناه : لا يجدونك كاذبا . وقال  الفراء  ،   والكسائي     :      [ ص: 132 ] لا يقولون إنك كاذب ، وقيل : لا يحتجون على كذبك ، ولا يثبتونه . ومن قرأ بالتشديد فمعناه : لا ينسبونك إلى الكذب ، وقيل : لا يعتقدون كذبك . ومما ذكر من خصائصه ، وبر الله - تعالى - به أن الله - تعالى - خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم ، فقال - تعالى - : يا  آدم   ، يا  نوح   ، يا  إبراهيم   ، يا  موسى   ، يا  داود   ، يا  عيسى   ، يا  زكريا   ، يا  يحيى      .  ولم يخاطب هو إلا : يا أيها الرسول ، يا أيها النبي   ، يا أيها المزمل ، يا أيها المدثر .  
				
						
						
