فصل  
وجرت عادة القوم : أن يذكروا في هذا المقام قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، حين أراه ما أراه :  ما زاغ البصر وما طغى   و   أبو القاسم القشيري  صدر باب الأدب بهذه الآية . وكذلك غيره .  
وكأنهم نظروا إلى قول من قال من أهل التفسير : إن هذا  وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم  في ذلك المقام . إذ لم يلتفت جانبا . ولا تجاوز ما رآه . وهذا كمال الأدب . والإخلال به : أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله ، أو يتطلع أمام المنظور . فالالتفات زيغ . والتطلع إلى ما أمام المنظور : طغيان ومجاوزة . فكمال إقبال الناظر على المنظور : أن لا يصرف بصره عنه يمنة ولا يسرة . ولا يتجاوزه .  
هذا معنى ما حصلته عن شيخ الإسلام  ابن تيمية  قدس الله روحه .  
وفي هذه الآية أسرار عجيبة . وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر صلى الله عليه وسلم : تواطأ هناك بصره وبصيرته . وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره . فالبصيرة مواطئة له . وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حق مشهود بالبصر . فتواطأ في حقه مشهد البصر والبصيرة .  
 [ ص: 362 ] ولهذا قال سبحانه وتعالى :  ما كذب الفؤاد ما رأى   أفتمارونه على ما يرى   أي ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره .  
ولهذا قرأها  أبو جعفر     : ما كذب الفؤاد ما رأى - بتشديد الذال - أي لم يكذب الفؤاد البصر . بل صدقه وواطأه . لصحة الفؤاد والبصر . أو استقامة البصيرة والبصر . وكون المرئي المشاهد بالبصر والبصيرة حقا . وقرأ الجمهور  ما كذب الفؤاد   بالتخفيف . وهو متعد . و : ما رأى مفعوله : أي ما كذب قلبه ما رأته عيناه . بل واطأه ووافقه . فلمواطأة قلبه لقالبه ، وظاهره لباطنه . وبصره لبصيرته : لم يكذب الفؤاد البصر . ولم يتجاوز البصر حده فيطغى . ولم يمل عن المرئي فيزيغ ، بل اعتدل البصر نحو المرئي . ما جاوزه ولا مال عنه ، كما اعتدل القلب في الإقبال على الله ، والإعراض عما سواه . فإنه أقبل على الله بكليته . وللقلب زيغ وطغيان . وكلاهما منتف عن قلبه وبصره . فلم يزغ قلبه التفاتا عن الله إلى غيره . ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذي أقيم فيه .  
وهذا غاية الكمال والأدب مع الله الذي لا يلحقه فيه سواه .  
فإن عادة النفوس ، إذا أقيمت في مقام عال رفيع : أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه . ألا ترى أن  موسى      - صلى الله عليه وسلم - لما أقيم في مقام التكليم والمناجاة : طلبت نفسه الرؤية ؟ ونبينا صلى الله عليه وسلم لما أقيم في ذلك المقام ، وفاه حقه : فلم يلتفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه ألبتة ؟  
ولأجل هذا ما عاقه عائق . ولا وقف به مراد ، حتى جاوز السماوات السبع حتى عاتب  موسى   ربه فيه . وقال : يقول  بنو إسرائيل      : إني كريم الخلق على الله . وهذا قد جاوزني وخلفني علوا . فلو أنه وحده ؟ ولكن معه كل أمته . وفي رواية   البخاري  فلما جاوزته بكى . قيل : ما يبكيك ؟ قال : أبكي أن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي     . ثم جاوزه علوا فلم تعقه إرادة . ولم تقف به دون كمال العبودية همة .  
 [ ص: 363 ] ولهذا كان مركوبه في مسراه يسبق خطوه الطرف . فيضع قدمه عند منتهى طرفه ، مشاكلا لحال راكبه ، وبعد شأوه ، الذي سبق العالم أجمع في سيره ، فكان قدم البراق لا يختلف عن موضع نظره . كما كان قدمه صلى الله عليه وسلم لا يتأخر عن محل معرفته .  
فلم يزل صلى الله عليه وسلم في حفارة كمال أدبه مع الله سبحانه ، وتكميل مراتب عبوديته له ، حتى خرق حجب السماوات ، وجاوز السبع الطباق . وجاوز سدرة المنتهى . ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين . فانصبت إليه هناك أقسام القرب انصبابا . وانقشعت عنه سحائب الحجب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا . وأقيم مقاما غبطه به الأنبياء والمرسلون . فإذا كان في المعاد أقيم مقاما من القرب ثانيا ، يغبطه به الأولون والآخرون . واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله ، ما زاغ البصر عنه وما طغى . فأقامه في هذا العالم على أقوم صراط من الحق والهدى . وأقسم بكلامه على ذلك في الذكر الحكيم ، فقال تعالى :  يس   والقرآن الحكيم   إنك لمن المرسلين   على صراط مستقيم   فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط يسأله السلامة لأتباعه وأهل سنته ، حتى يجوزوه إلى جنات النعيم . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله ذو الفضل العظيم .  
				
						
						
