وأما الكلمات التي تروى عن بعضهم : من التزهيد في  العلم ،   والاستغناء عنه . كقول من قال : نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت ، وأنتم تأخذونه من حي يموت .  
وقول الآخر - وقد قيل له : ألا ترحل حتى تسمع من  عبد الرزاق     - فقال : ما يصنع بالسماع من  عبد الرزاق ،  من يسمع من الخلاق ؟  
وقول الآخر : العلم حجاب بين القلب وبين الله عز وجل .  
وقول الآخر : لنا علم الحرف . ولكم علم الورق .  
ونحو هذا من الكلمات التي أحسن أحوال قائلها : أن يكون جاهلا يعذر بجهله ، أو شاطحا معترفا بشطحه ، وإلا فلولا  عبد الرزاق  وأمثاله ، ولولا أخبرنا وحدثنا لما وصل إلى هذا وأمثاله شيء من الإسلام .  
 [ ص: 439 ] ومن أحالك على غير أخبرنا وحدثنا فقد أحالك : إما على خيال صوفي ، أو قياس فلسفي . أو رأي نفسي . فليس بعد القرآن وأخبرنا وحدثنا إلا شبهات المتكلمين . وآراء المنحرفين ، وخيالات  المتصوفين ،   وقياس المتفلسفين . ومن فارق الدليل ، ضل عن سواء السبيل . ولا دليل إلى الله والجنة ، سوى الكتاب والسنة . وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم ، والشيطان الرجيم .  
والعلم ما قام عليه الدليل      . والنافع منه : ما جاء به الرسول .  والعلم خير من الحال      : العلم حاكم . والحال محكوم عليه . والعلم هاد . والحال تابع . والعلم آمر ناه . والحال منفذ قابل ، والحال سيف ، إن لم يصحبه العلم فهو مخراق في يد لاعب . الحال مركب لا يجارى . فإن لم يصحبه علم ألقى صاحبه في المهالك والمتالف . والحال كالمال يؤتاه البر والفاجر . فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالا على صاحبه .  
الحال بلا علم كالسلطان الذي لا يزعه عن سطوته وازع .  
الحال بلا علم كالنار التي لا سائس لها .  
نفع الحال لا يتعدى صاحبه . ونفع العلم كالغيث يقع على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر .  
دائرة العلم تسع الدنيا والآخرة . ودائرة الحال تضيق عن غير صاحبه . وربما ضاقت عنه .  
العلم هاد والحال الصحيح مهتد به . وهو تركة الأنبياء وتراثهم . وأهله عصبتهم ووراثهم ، وهو حياة القلوب . ونور البصائر . وشفاء الصدور . ورياض العقول . ولذة الأرواح . وأنس المستوحشين . ودليل المتحيرين . وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال .  
وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين ، والغي والرشاد ، والهدى والضلال .  
به يعرف الله ويعبد ، ويذكر ويوحد ، ويحمد ويمجد . وبه اهتدى إليه السالكون . ومن طريقه وصل إليه الواصلون . ومن بابه دخل عليه القاصدون .  
 [ ص: 440 ] به تعرف الشرائع والأحكام ، ويتميز الحلال من الحرام . وبه توصل الأرحام وبه تعرف مراضي الحبيب ، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب .  
وهو إمام ، والعمل مأموم . وهو قائد ، والعمل تابع . وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة ، والأنيس في الوحشة . والكاشف عن الشبهة . والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه . والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه .  
مذكراته تسبيح . والبحث عنه جهاد . وطلبه قربة . وبذله صدقة . ومدارسته تعدل بالصيام والقيام . والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام .  
قال   الإمام أحمد  رضي الله عنه : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب . لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين . وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه     .  
وروينا  عن   الشافعي  رضي الله تعالى عنه أنه قال : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة     .  
ونص على ذلك  أبو حنيفة  رضي الله عنه .  
وقال  ابن وهب     : كنت بين يدي  مالك  رضي الله عنه . فوضعت ألواحي وقمت أصلي . فقال : ما الذي قمت إليه بأفضل مما قمت عنه     .  
ذكره   ابن عبد البر  وغيره .  
 [ ص: 441 ] واستشهد الله عز وجل بأهل العلم على أجل مشهود به ، وهو التوحيد وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته . وفي ضمن ذلك تعديلهم . فإنه سبحانه وتعالى لا يستشهد بمجروح .  
ومن هاهنا - والله أعلم - يؤخذ الحديث المعروف  يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله . ينفون عنه تحريف الغالين ، وتأويل المبطلين     .  
وهو حجة الله في أرضه . ونوره بين عباده . وقائدهم ودليلهم إلى جنته . ومدنيهم من كرامته .  
ويكفي في شرفه : أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب . وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها ، وتظلهم بها ، وأن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في البحر ، وحتى النمل في جحرها ، وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير .  
ولقد رحل كليم الرحمن  موسى بن عمران      - عليه الصلاة والسلام - في طلب العلم      [ ص: 442 ] هو وفتاه ، حتى مسهما النصب في سفرهما في طلب العلم . حتى ظفر بثلاث مسائل . وهو من أكرم الخلق على الله وأعلمهم به .  
وأمر الله رسوله أن يسأله المزيد منه فقال :  وقل رب زدني علما      .  
وحرم الله صيد الجوارح الجاهلة ، وإنما أباح للأمة صيد الجوارح العالمة .  
فهكذا جوارح الإنسان الجاهل لا يجدي عليه صيدها من الأعمال شيئا . والله سبحانه وتعالى أعلم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					