فصل  
قال : والمحبة : أول أودية الفناء ، والعقبة التي ينحدر منها على منازل المحو . وهي آخر منزل تلتقي فيه مقدمة العامة ، وساقة الخاصة .  
إنما كانت  المحبة أول أودية الفناء      : لأنها تفني خواطر المحب عن التعلق بالغير . وأول ما يفنى من المحب : خواطره المتعلقة بما سوى محبوبه . لأنه إذا انجذب قلبه بكليته إلى محبوبه انجذبت خواطره تبعا .  
ويريد بمنازل المحو مقاماته .  
وأولها : محو الأفعال في فعل الحق تعالى . فلا يرى لنفسه ولا لغيره فعلا .  
والثاني : محو الصفات التي في العبد . فيراها عارية أعيرها ، وهبة وهبها . ليستدل بها على بارئه وفاطره ، وعلى وحدانيته وصفاته . فيعلم بواسطة حياته : معنى حياة ربه ، وبواسطة علمه وقدرته وإرادته ، وسمعه وبصره ، وكلامه وغضبه ورضاه :      [ ص: 36 ] معنى علم ربه ، وقدرته وإرادته ، وسمعه وبصره ، وكلامه ، وغضبه ورضاه . ولولا هذه الصفات فيه لما عرفها من ربه .  
وهذا أحد التأويلات في الأثر الإسرائيلي : اعرف نفسك تعرف ربك .  
وهذه الصفات في الحقيقة : أثر الصفات الإلهية فيه . فإنها أثر أفعال الحق ، وأفعاله موجب صفاته وأسمائه . فإذن عاد الأمر كله إلى أفعاله ، وعادت أفعاله إلى صفاته .  
ففي هذه المنزلة يمحو العبد شهود صفاته ووجودها الذي ليس بحقيقي . ويثبت شهود صفات المعبود ووجودها الحقيقي . فالله سبحانه منح عبده هذه الصفات ليعرفه بها . ويستدل بها عليه . فإن لم يفعلها عطل عليه طريق المعرفة والاستدلال بها . فصارت بمنزلة العدم . ولهذا يوصف الغافل عن الله بالصم والبكم والعمى والموت ، وعدم العقل .  
الثالث : محو الذات . وهو شهود تفرد الحق تعالى بالوجود أزلا وأبدا . وأنه الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء . ووجود كل ما سواه قائم به وأثر صنعه . فوجوده هو الوجود الواجب الحق ، الثابت لنفسه أزلا وأبدا . وأنه المتفرد بذلك .  
وهذا المحو يصح باعتبارين .  
أحدهما : باعتبار الوجود الذاتي . ولا ريب في إثبات محوه بهذا الاعتبار . إذ ليس مع الله موجود بذاته سواه . وكل ما سواه فموجود بإيجاده سبحانه .  
الاعتبار الثاني : المحو في المشهد . فلا يشهد فاعلا غير الحق سبحانه . ولا صفات غير صفاته ، ولا موجود سواه ، لغيبته بكمال شهوده عن شهود غيره .  
وأما محو ذلك من الوجود جملة : فهو محو الزنادقة وطائفة  الاتحادية      . وصاحب المنازل وكل ولي لله بريء منهم حالا وعقيدة .  
والمقصود : أن من عقبة المحبة ينحدر المحب على منازل المحو .  
ولما كانت منازل المحو والفناء غاية عند صاحب المنازل جعل المحبة عقبة ينحدر منها إليها .  
وأما من جعل المحبة غاية : فمنازل المحو عنده أودية يصعد منها إلى روح المحبة . وليس بعد المحبة الصحيحة إلا منازل البقاء . وأما الفناء والمحو : فعقبات وأودية في طريقها عند هؤلاء . والله أعلم .  
 [ ص: 37 ] قوله : وهي آخر منزلة تلتقي فيها مقدمة العامة وساقة الخاصة .  
هذا بناء على الأصل الذي ذكره ، وهو : أن المحبة ينحدر منها على أودية الفناء . فهي أول أودية الفناء . فمقدمة العامة : هم في آخر مقام المحبة ، وساقة الخاصة : في أول منزل الفناء . ومنزلة الفناء متصلة بآخر منزلة المحبة . فتلتقي حينئذ مقدمة العامة بساقة الخاصة ، هذا شرح كلامه .  
وعند الطائفة الأخرى : الأمر بالعكس . وهو أن مقدمة أرباب الفناء يلتقون بساقة أو باب المحبة . فإنهم أمامهم في السير . وهم أمام الركب دائما . وهذا بناء على أن أهل البقاء في المحبة أعلى شأنا من أهل الفناء . وهو الصواب . والله أعلم .  
				
						
						
