( فصل ) : 
وأما بيان حكم ما يحرم على المحرم اصطياده إذا اصطاده فالأمر لا يخلو إما أن قتل الصيد ، وإما أن جرحه ، وإما أن أخذه فلم يقتله ولم يجرحه ، فإن قتله فالقتل لا يخلو ، إما أن يكون مباشرة ، أو تسيبا ، فإن كان مباشرة فعليه قيمة الصيد المقتول يقومه ذوا عدل لهما بصارة بقيمة الصيود فيقومانه في المكان الذي أصابه إن كان موضعا تباع فيه الصيود ، وإن كان في مفازة يقومانه في أقرب الأماكن من العمران إليه ، فإن بلغت قيمته ثمن هدي ، فالقاتل بالخيار إن شاء أهدى ، وإن شاء أطعم ، وإن شاء صام ، وإن لم يبلغ قيمته ثمن هدي فهو بالخيار بين الطعام والصيام ، سواء كان الصيد مما له نظير ، أو كان مما لا نظير له . 
وهذا قول  أبي حنيفة  ،  وأبي يوسف  ، وحكى  الطحاوي  قول  محمد    : أن الخيار للحكمين إن شاءا حكما عليه هديا ، وإن شاءا طعاما ، وإن شاءا صياما ، فإن حكما عليه هديا نظر القاتل إلى نظيره من النعم من حيث الخلقة والصورة إن كان الصيد مما له نظير ، سواء كان قيمة نظيره مثل قيمته أو أقل أو أكثر لا ينظر إلى القيمة ، بل إلى الصورة والهيئة ، فيجب في الظبي شاة وفي الضبع شاة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي النعامة بعير وفي الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة ، وإن لم يكن له نظير مما في ذبحه قربة كالحمام ، والعصفور ، وسائر الطيور تعتبر قيمته كما قال  أبو حنيفة   وأبو يوسف   ومحمد  ، وحكى  الكرخي  قول  محمد    : إن الخيار للقاتل عنده أيضا غير أنه إن اختار الهدي لا يجوز له إلا إخراج النظير فيما له نظير . 
وعند  الشافعي  يجب عليه بقتل ما له نظير النظير ابتداء من غير اختيار أحد ، وله أن يطعم ، ويكون الإطعام بدلا عن النظير لا عن الصيد ، فيقع الكلام في موجب قتل صيد له نظير  في مواضع منها : أنه يجب على القاتل قيمته في قول  أبي حنيفة   وأبي يوسف  ، ولا يجب عند  محمد   والشافعي    . 
والأصل فيه قوله عز وجل { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم    } أي : فعليه جزاء مثل ما قتل ، أوجب الله تعالى على القاتل جزاء مثل ما قتل ، واختلف الفقهاء في المراد من المثل المذكور في الآية الشريفة ، قال  أبو حنيفة   وأبو يوسف    : " المراد منه المثل من حيث المعنى وهو القيمة " وقال  محمد   والشافعي    : " المراد منه المثل من حيث الصورة والهيئة " وجه قولهما : أن الله تعالى أوجب على القاتل جزاء من النعم ، وهو مثل ما قتل من النعم ; لأنه ذكر المثل ثم فسره بالنعم بقوله عز وجل من النعم ، ومن ههنا لتمييز الجنس ، فصار تقدير الآية الشريفة : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء من النعم ، وهو مثل المقتول ، وهو أن يكون مثله في الخلقة والصورة . 
وروي أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم  عمر  رضي الله عنه أوجبوا في النعامة بدنة ، وفي الظبية شاة ، وفي الأرنب عناقا ، ، وهم كانوا أعرف بمعاني كتاب الله تعالى ،  ولأبي حنيفة  ،  وأبي يوسف  وجوه من الاستدلال بهذه الآية أولها : أن الله عز وجل نهى المحرمين عن قتل الصيد عاما ; لأنه تعالى  [ ص: 199 ] ذكر الصيد بالألف واللام بقوله عز وجل : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ،    } والألف واللام لاستغراق الجنس خصوصا عند عدم المعهود ، ثم قال تعالى { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل    } والهاء كناية راجعة إلى الصيد الموجد من اللفظ المعرف فاللام التعريف ، فقد أوجب سبحانه وتعالى بقتل الصيد مثلا يعم ما له نظير وما لا نظير له ، وذلك هو المثل من حيث المعنى ، وهو القيمة لا المثل من حيث الخلقة والصورة ; لأن ذلك لا يجب في صيد لا نظير له ، بل الواجب فيه المثل من حيث المعنى وهو القيمة بلا خلاف ، فكان صرف المثل المذكور بقتل الصيد على العموم إليه تخصيصا لبعض ما تناوله عموم الآية ، والعمل بعموم اللفظ واجب ما أمكن ، ولا يجوز تخصيصه إلا بدليل ، والثاني أن مطلق اسم المثل ينصرف إلى ما عرف مثلا في أصول الشرع ، والمثل المتعارف في أصول الشرع ، هو المثل من حيث الصورة والمعنى ، أو من حيث المعنى وهو القيمة كما في ضمان المتلفات ، فإن من أتلف على آخر حنطة يلزمه حنطة . 
ومن أتلف عليه عرضا تلزمه القيمة . 
فأما المثل من حيث الصورة والهيئة فلا نظير له في أصول الشرع ، فعند الإطلاق ينصرف إلى المتعارف لا إلى غيره ، والثالث : أنه سبحانه وتعالى ذكر المثل منكرا في موضع الإثبات فيتناول واحدا ، وأنه اسم مشترك يقع على المثل من حيث المعنى ، ويقع على المثل من حيث الصورة ، فالمثل من حيث المعنى يراد من الآية فيما لا نظير له ، فلا يكون الآخر مرادا إذ المشترك في موضع الإثبات لا عموم له ، والرابع : أن الله تعالى ذكر عدالة الحكمين ، ومعلوم أن العدالة إنما تشترط فيما يحتاج فيه إلى النظر والتأمل ، وذلك في المثل من حيث المعنى وهو القيمة ; لأن بها تتحقق الصيانة عن الغلو والتقصير ، وتقرير الأمر على الوسط . 
فأما الصورة فمشابهة لا تفتقر إلى العدالة . 
وأما قوله تعالى { من النعم    } فلا نسلم أن قوله تعالى { من النعم    } خرج تفسيرا للمثل ، وبيانه من وجهين أحدهما : أن قوله { فجزاء مثل ما قتل    } كلام تام بنفسه مفيد بذاته من غير وصله بغيره لكونه مبتدأ وخبرا ، وقوله { من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة     } يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل ; لأنه كما يرجع إلى الحكمين في تقويم الصيد المتلف يرجع إليهما في تقويم الهدي الذي يوجد بذلك القدر من القيمة ، فلا يجعل قوله : { مثل ما قتل    } مربوطا بقوله عز وجل { من النعم    } مع استغناء الكلام عنه . 
هذا هو الأصل إلا إذا قام دليل زائد يوجب الربط بغيره ، والثاني : أنه وصل قوله { من النعم    } بقوله { يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة    } ، وقوله عز وجل { أو كفارة طعام مساكين    } ، وقوله عز وجل { أو عدل ذلك صياما    } جعل الجزاء أحد الأشياء الثلاثة ; لأنه أدخل حرف التخيير بين الهدي والإطعام ، وبين الطعام والصيام فلو كان قوله { من النعم    } تفسيرا للمثل ، لكان الطعام والصيام مثلا لدخول حرف أو بينهما ، وبين النعم إذ لا فرق بين التقديم والتأخير في الذكر ، بأن قال تعالى : فجزاء مثل ما قتل طعاما ، أو صياما أو من النعم هديا ; لأن التقديم في التلاوة ، لا يوجب التقديم في المعنى ، ولما لم يكن الطعام والصيام مثلا للمقتول دل أن ذكر النعم لم يخرج مخرج التفسير للمثل ، بل هو كلام مبتدأ غير موصول المراد بالأول ، وقول جماعة الصحابة رضي الله عنهم محمول على الإيجاب من حيث القيمة توفيقا بين الدلائل مع ما ، إن المسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روي عن  ابن عباس  مثل مذهب  أبي حنيفة  ،  وأبي يوسف ،  فلا يحتج بقول البعض على البعض ، وعلى هذا ينبني اعتبار مكان الإصابة في التقويم عندهما ; لأن الواجب على القاتل القيمة وأنها تختلف باختلاف المكان . 
وعند  محمد  ،  والشافعي  الواجب : هو النظير إما بحكم الحكمين أو ابتداء ، فلا يعتبر فيه المكان . 
وقال  الشافعي    : " يقوم بمكة  أو بمنى  وإنه غير سديد ; لأن العبرة في قيم المستهلكات في أصول الشرع مواضع الاستهلاك ، كما في استهلاك سائر الأموال ومنها أن الطعام بدل عن الصيد عندنا ، فيقوم الصيد بالدراهم ويشتري بالدراهم طعاما ، وهو مذهب  ابن عباس  وجماعة من التابعين ، وعن  ابن عباس  رواية أخرى : أن الطعام بدل عن الهدي فيقوم الهدي بالدراهم ، ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما ، وهو قول  الشافعي    . 
والصحيح قولنا ; لأن الله تعالى جعل جميع ذلك جزاء الصيد بقوله عز وجل : { فجزاء مثل ما قتل من النعم    } إلى قوله { أو كفارة طعام مساكين    } فلما كان الهدي من حيث كونه جزاء معتبرا بالصيد إما في قيمته أو نظيره على اختلاف القولين ، كان الطعام مثله ; ولأن فيما لا مثل له من النعم اعتبار الطعام بقيمة الصيد  [ ص: 200 ] بلا خلاف ، فكذا فيما له مثل ; لأن الآية عامة منتظمة للأمرين جميعا . 
				
						
						
