( كتاب النكاح ) : 
الكلام في هذا الكتاب في الأصل في أربعة مواضع في بيان صفة النكاح المشروع وفي بيان ركن النكاح وفي بيان شرائط الركن وفي بيان حكم النكاح أما الأول فنقول : لا خلاف أن النكاح فرض حالة التوقان ، حتى أن من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم ، واختلف فيما إذا لم تتق نفسه إلى النساء على التفسير الذي ذكرنا ، قال نفاة القياس مثل  داود بن علي الأصفهاني  وغيره من أصحاب الظواهر : أنه فرض عين بمنزلة الصوم والصلاة وغيرهما من فروض الأعيان ، حتى أن من تركه مع القدرة على المهر والنفقة والوطء يأثم . 
وقال  الشافعي  إنه مباح كالبيع والشراء . 
واختلف أصحابنا فيه ، قال بعضهم : إنه مندوب ومستحب . 
وإليه ذهب من أصحابنا  الكرخي    . 
وقال بعضهم : إنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، بمنزلة الجهاد وصلاة الجنازة . 
وقال بعضهم : إنه واجب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في كيفية الوجوب ، قال بعضهم : إنه واجب على سبيل الكفاية ، كرد السلام . 
وقال بعضهم : إنه واجب عينا ، لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين ، كصدقة الفطر والأضحية ، والوتر احتج أصحاب الظواهر بظواهر النصوص من نحو قوله عز وجل { فانكحوا ما طاب لكم من النساء    } وقوله عز وجل { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم    } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن   } . 
وقوله صلى الله عليه وسلم { تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة   } أمر الله عز وجل بالنكاح مطلقا ، والأمر المطلق للفرضية والوجوب قطعا ، إلا أن يقوم الدليل بخلافه ، ولأن الامتناع من الزنا واجب ولا يتوصل إليه إلا بالنكاح ، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به يكون واجبا . 
واحتج  الشافعي  بقوله تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم    } أخبر عن إحلال النكاح ، والمحلل والمباح من الأسماء المترادفة ، ولأنه قال : { وأحل لكم    } ولفظ لكم يستعمل في المباحات ، ولأن النكاح سبب يتوصل به إلى قضاء الشهوة فيكون مباحا كشراء الجارية للتسري بها ، وهذا لأن قضاء الشهوة إيصال النفع إلى نفسه ، وليس يجب على الإنسان إيصال النفع إلى نفسه بل : هو مباح في الأصل ، كالأكل والشرب ، وإذا كان مباحا لا يكون واجبا لما بينهما من التنافي والدليل على أن النكاح ليس بواجب قوله تعالى { وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين    } وهذا خرج مخرج المدح ليحيى  عليه الصلاة والسلام بكونه حصورا ، والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة ولو كان واجبا لما استحق المدح بتركه ; لأن ترك الواجب لأن يذم عليه أولى من أن يمدح . 
واحتج من قال من أصحابنا : إنه مندوب إليه ومستحب بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فليصم فإن الصوم له وجاء   } أقام الصوم مقام النكاح ، والصوم ليس بواجب فدل أن النكاح ليس بواجب أيضا ، لأن غير الواجب لا يقوم مقام الواجب . 
ولأن في الصحابة رضي الله عنهم من لم تكن له زوجة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم علم منه بذلك ولم ينكر عليه ، فدل أنه ليس بواجب . 
ومن قال منهم : إنه  [ ص: 229 ] فرض أو واجب على سبيل الكفاية احتج بالأوامر الواردة في باب النكاح والأمر المطلق للفرضية والوجوب قطعا ، والنكاح لا يحتمل ذلك على طريق التعيين ; لأن كل واحد من آحاد الناس لو تركه لا يأثم ، فيحمل على الفرضية والوجوب على طريق الكفاية ، فأشبه الجهاد ، وصلاة الجنازة ، ورد السلام . 
ومن قال منهم : إنه واجب عينا لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين يقول : صيغة الأمر المطلقة عن القرينة تحتمل الفرضية ، وتحتمل الندب ; لأن الأمر دعاء وطلب ، ومعنى الدعاء والطلب موجود في كل واحد منهما ، فيؤتى بالفعل لا محالة ، وهو تفسير وجوب العمل ، ويعتقد على الإبهام على أن ما أراد الله تعالى بالصيغة من الوجوب القطعي أو الندب فهو حق ; لأنه إن كان واجبا عند الله فخرج عن العهدة بالفعل ، فيأمن الضرر وإن كان مندوبا يحصل له الثواب ، فكان القول بالوجوب على هذا الوجه أخذا بالثقة ، والاحتياط ، واحترازا عن الضرر بالقدر الممكن ، وأنه واجب شرعا وعقلا ، وعلى هذا الأصل بنى أصحابنا من قال منهم : إن النكاح فرض أو واجب ; لأن الاشتغال به مع أداء الفرائض والسنن أولى من التخلي لنوافل العبادات مع ترك النكاح ، وهو قول أصحاب الظواهر لأن الاشتغال بالفرض والواجب كيف ما كان أولى من الاشتغال بالتطوع . 
ومن قال منهم : إنه مندوب ، ومستحب ; فإنه يرجحه على النوافل من وجوه أخر أحدها : أنه سنة قال النبي صلى الله عليه وسلم { النكاح سنتي   } والسنن مقدمة على النوافل بالإجماع . 
ولأنه أوعد على ترك السنة بقوله { فمن رغب عن سنتي فليس مني   } ولا وعيد على ترك النوافل . 
والثاني : أنه فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه أي : داوم وثبت عليه ، بحيث لم يخل عنه ، بل كان يزيد عليه حتى تزوج عددا مما أبيح له من النساء . 
ولو كان التخلي للنوافل أفضل لما فعل ; لأن الظاهر أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يتركون الأفضل فيما له حد معلوم ; لأن ترك الأفضل فيما له حد معلوم عد زلة منهم ، وإذا ثبت أفضلية النكاح في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق الأمة ; لأن الأصل من الشرائع هو العموم ، والخصوص بدليل . 
والثالث : أنه سبب يتوصل به إلى مقصود هو مفضل على النوافل ; لأنه سبب لصيانة النفس عن الفاحشة ، وسبب لصيانة نفسها عن الهلاك بالنفقة ، والسكنى ، واللباس ، لعجزها عن الكسب ، وسبب لحصول الولد الموحد . 
وكل واحد من هذه المقاصد مفضل على النوافل ، فكذا السبب الموصل إليه كالجهاد والقضاء . 
وعند  الشافعي  التخلي أولى . 
وتخريج المسألة على أصله ظاهر ; لأن النوافل مندوب إليها ، فكانت مقدمة على المباح ، وما ذكره من دلائل الإباحة والحل فنحن نقول بموجبها : إن النكاح مباح ، وحلال في نفسه لكنه واجب لغيره ، أو مندوب ومستحب لغيره من حيث إنه صيانة للنفس من الزنا ونحو ذلك على ما بينا . 
ويجوز أن يكون الفعل الواحد حلالا بجهة ، واجبا أو مندوبا إليه بجهة ; إذ لا تنافي عند اختلاف الجهتين . 
وأما قوله عز وجل { وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين    } فاحتمل أن التخلي للنوافل كان أفضل من النكاح في شريعته ، ثم نسخ ذلك في شريعتنا بما ذكرنا من الدلائل - والله أعلم - . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					