الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( والثاني ) شرائط صحة القبض فأنواع .

                                                                                                                                ( منها ) أن يكون القبض بإذن المالك لأن الإذن بالقبض شرط لصحة القبض في باب البيع حتى لو قبض المشتري من غير إذن البائع قبل نقد الثمن كان للبائع حق الاسترداد [ ص: 124 ] فلأن يكون في الهبة أولى لأن البيع يصح بدون القبض والهبة لا صحة لها بدون القبض فلما كان الإذن بالقبض شرطا لصحته فيما لا يتوقف صحته على القبض فلأن يكون شرطا فيما يتوقف صحته على القبض أولى ; ولأن القبض في باب الهبة يشبه الركن وإن لم يكن ركنا على الحقيقة فيشبه القبول في باب البيع ولا يجوز القبول من غير إذن البائع ورضاه فلا يجوز القبض من غير إذن الواهب أيضا والإذن نوعان : صريح ودلالة .

                                                                                                                                أما الصريح فنحو أن يقول اقبض أو أذنت لك بالقبض أو رضيت وما يجرى هذا المجرى فيجوز قبضه سواء قبضه بحضرة الواهب أو بغير حضرته استحسانا والقياس أن لا يجوز قبضه بعد الافتراق عن المجلس وهو قول زفر رحمه الله لأن القبض عنده ركن بمنزلة القبول على أحد قوليه فلا يصح بعد الافتراق عن المجلس كما لا يصح القبول عنده بعد الافتراق وإن كان بإذن الواهب كالقبول في باب البيع .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل إليه ست بدنات فجعلن يزدلفن إليه فقام عليه الصلاة والسلام فنحرهن بيده الشريفة وقال من شاء فليقطع وانصرف فقد أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبض بعد الافتراق حيث أذن لهم بالقطع فدل على جواز القبض واعتباره بعد الافتراق ولأن الإذن بقبض الواهب صريحا بمنزلة إذن البائع بقبض المبيع وذلك يعمل بعد الافتراق كذا هذا .

                                                                                                                                ( وأما ) الدلالة فهي أن يقبض الموهوب له العين في المجلس ولا ينهاه الواهب فيجوز قبضه استحسانا والقياس أن لا يجوز كما لا يجوز بعد الافتراق وهو قول زفر وقد ذكرنا القياس والاستحسان في الزيادات ولو قبض المشتري المبيع بيعا جائزا بحضرة البائع قبل نقد الثمن لم يجز قبضه قياسا واستحسانا حتى كان له أن يسترد وفي البيع الفاسد اختلاف روايتي الكرخي والطحاوي رحمهما الله ذكرناهما في البيوع

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن القبض ركن في الهبة كالقبول فيها فلا يجوز من غير إذن كالقبول من باب البيع .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن الإذن بالقبض وجد من طريق الدلالة لأن الإقدام على إيجاب الهبة إذن بالقبض لأنه دليل قصد التمليك ولا ثبوت للملك إلا بالقبض فكان الإقدام على الإيجاب إذنا بالقبض دلالة والثابت دلالة كالثابت نصا بخلاف ما بعد الافتراق لأن الإقدام دلالة الإذن بالقبض في المجلس لا بعد الافتراق ولأن للقبض في باب الهبة شبها بالركن فيشبه القبول في باب البيع وإيجاب البيع يكون إذنا بالقبول في المجلس لا بعد الافتراق فكذا إيجاب الهبة يكون إذنا بالقبض لا بعد الافتراق .

                                                                                                                                ولو وهب شيئا متصلا بغيره مما لا تقع عليه الهبة كالثمر المعلق على الشجر دون الشجر أو الشجر دون الأرض أو حلية السيف دون السيف أو القفيز من الصبرة أو الصوف على ظهر الغنم وغير ذلك مما لا جواز للهبة فيه إلا بالفصل والقبض ففصل وقبض فإن قبض بغير إذن الواهب لم يجز القبض سواء كان الفصل والقبض بحضرة الواهب أو بغير حضرته ولأن الجواز في المنفصل عند حضرة الواهب للإذن الثابت دلالة الإيجاب ولم يوجد ههنا لأن الإيجاب لم يقع صحيحا حين وجوده فلا يصح الاستدلال على الإذن بالقبض وإن قبض بإذنه يجوز استحسانا والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر بناء على أن العقد إذا وقع فاسدا من حين وجوده لا يحتمل الجواز عنده بحال لاستحالة انقلاب الفاسد جائزا وعندنا يحتمل الجواز بإسقاط المفسد مقصورا على الحال أو من حين وجود العقد بطريق البيان على اختلاف الطريقين اللذين ذكرناهما في كتاب البيع .

                                                                                                                                وكذلك إذا وهب دينا له على إنسان لآخر أنه إن قبض الموهوب له بإذن الواهب صريحا جاز قبضه استحسانا والقياس أن لا يجوز وقد ذكرنا وجه القياس والاستحسان فيما تقدم وإن قبضه بحضرته ولم ينهه عن ذلك لا يجوز قياسا واستحسانا فرق بين العين والدين .

                                                                                                                                ( ووجه ) الفرق أن الجواز في هبة العين عند عدم التصريح بالإذن لكون الإيجاب فيها دلالة الإذن بالقبض لكون دلالة قصده تمليك ما هو ملكه من الموهوب له وإيجاب الهبة في الدين لغير من عليه الدين لا تصح دلالة الإذن إلا بقبضه لأن دلالته بواسطة دلالة قصد التمليك وتمليك الدين من غير من عليه الدين لا يتحقق إلا بالتصريح بالإذن بالقبض لأنه إذا أذن له بالقبض صريحا قام قبضه مقام قبض الواهب فيصير بقبض العين قابضا للواهب أولا ويصير المقبوض ملكا له أولا ثم يصير قابضا لنفسه من الواهب فيصير الواهب على هذا التقدير الذي [ ص: 125 ] ذكرنا واهبا ملك نفسه والموهوب له قابضا ملك الواهب فصحت الهبة والقبض وإذا لم يصرح بالإذن بالقبض بقي المقبوض من المال العين على ملك من عليه فلم تصح الهبة فلا يجوز قبض الموهوب له فهو الفرق بين الفصلين .

                                                                                                                                ومنها أن لا يكون الموهوب مشغولا بما ليس بموهوب لأن معنى القبض وهو التمكن من التصرف في المقبوض لا يتحقق مع الشغل وعلى هذا يخرج ما إذا وهب دارا فيها متاع الواهب وسلم الدار إليه أو سلم الدار مع ما فيها من المتاع فإنه لا يجوز لأن الفراغ شرط صحة التسليم والقبض ولم يوجد قيل الحيلة في صحة التسليم أن يودع الواهب المتاع عند الموهوب له أولا ويخلى بينه وبين المتاع ثم يسلم الدار إليه فتجوز الهبة فيها لأنها مشغولة بمتاع هو في يد الموهوب له وفي هذه الحيلة إشكال وهو أن يد المودع يد المودع معنى فكانت يده قائمة على المتاع فتمنع صحة التسليم .

                                                                                                                                ولو أخرج المتاع من الدار ثم سلم فارغا جاز وينظر إلى حال القبض لا إلى حال العقد لأن المانع من النفاذ قد زال فينفذ كما في هبة المشاع ولو وهب ما فيها من المتاع دون الدار وخلى بينه وبين المتاع جازت الهبة لأن المتاع لا يكون مشغولا بالدار والدار تكون مشغولة بالمتاع لهذا افترقا فيصح تسليم المتاع ولا يصح تسليم الدار ولو جمع في الهبة بين المتاع وبين الدار الذي فيها فوهبهما جميعا صفقة واحدة وخلى بينه وبينهما جازت الهبة فيهما جميعا لأن التسليم قد صح فيهما جميعا فإن فرق بينهما في الهبة بأن وهب أحدهما ثم وهب الآخر فهذا لا يخلو إما إن جمع بينهما في التسليم وأما إن فرق فإن جمع جازت الهبة فيهما جميعا وإن فرق بأن وهب أحدهما وسلم ثم وهب الآخر وسلم نظر في ذلك وروعي فيه الترتيب إن قدم هبة الدار فالهبة في الدار لم تجز لأنها مشغولة بالمتاع فلم يصح تسليم الدار وجازت في المتاع لأنه غير مشغول بالدار فيصح تسليمه ولو قدم هبة المتاع جازت الهبة فيهما جميعا أما في المتاع فلأنه غير مشغول بالدار فيصح تسليمه وأما في الدار فلأنها وقت التسليم كانت مشغولة بمتاع هو ملك الموهوب فلا يمنع صحة القبض .

                                                                                                                                وعلى هذا الأصل أيضا يخرج ما إذا وهب جارية واستثنى ما في بطنها أو حيوانا واستثنى ما في بطنه أنه لا يجوز لأنه لو جاز لكان ذلك هبة ما هو مشغول بغيره وإنها غير جائزة لأنه لا جواز لها بدون القبض وكون الموهوب مشغولا بغيره يمنع صحة القبض ولو أعتق ما في بطن جاريته ثم وهب الأم يجوز وذكر في العتاق أنه لو دبر ما في بطن جاريته لا يجوز منهم من قال في المسألة روايتان .

                                                                                                                                ( وجه ) رواية عدم الجواز أن الموهوب مشغول بما ليس بموهوب فأشبه هبة دار فيها متاع الواهب .

                                                                                                                                ( وجه ) رواية الجواز وهي رواية الكرخي أن حرية الجنين تجعله مستثنى من العقد لأن حكم العقد لم يثبت فيه مع تناوله إياه ظاهرا وهذا معنى الاستثناء ولو استثناه لفظا جازت الهبة في الأم فكذا إذا كان مستثنى في المعنى ومنهم من قال في المسألة رواية واحدة وفرق بين الإعتاق والتدبير .

                                                                                                                                ( ووجه ) الفرق أن المدبر مال المولى فإذا وهب الأم فقد وهب ما هو مشغول بمال الواهب فلم يجز كهبة دار فيها متاع الواهب وأما الحر فليس بمال فصار كما لو وهب دارا فيها حر جالس وذا لا يمنع جواز الهبة كذا هذا ومنها أن لا يكون الموهوب متصلا بما ليس بموهوب اتصال الأجزاء لأن قبض الموهوب وحده لا يتصور وغيره ليس بموهوب فكان هذا في معنى المشاع وعلى هذا يخرج ما إذا وهب أرضا فيها زرع دون الزرع أو شجرا عليها ثمر دون الثمر أو وهب الزرع دون الأرض أو الثمر دون الشجر وخلى بينه وبين الموهوب له أنه لا يجوز لأن الموهوب متصل بما ليس بموهوب اتصال جزء بجزء فمنع صحة القبض ولو جذ الثمر وحصد الزرع ثم سلمه فارغا جاز لأن المانع من النفاذ وهو ثبوت الملك قد زال ولو جمع بينهما في الهبة فوهبهما جميعا وسلم متفرقا جاز ولو فرق بينهما في الهبة فوهب كل واحد منهما بعقد على حدة بأن وهب الأرض ثم الزرع أو الزرع ثم الأرض فإن جمع بينهما في التسليم جازت الهبة فيهما جميعا وإن فرق لا تجوز الهبة فيهما جميعا قدم أو أخر سواء .

                                                                                                                                بخلاف الفصل الأول لأن المانع من صحة القبض هنا الاتصال وأنه لا يختلف والمانع هناك الشغل وأنه يختلف نظير هذا ما إذا وهب نصف الدار مشاعا من رجل ولم يسلم إليه حتى وهب النصف الباقي منه وسلم الكل أنه يجوز ولو وهب النصف وسلم ثم وهب الباقي وسلم لا يجوز كذا هذا وعلى هذا يخرج ما إذا وهب صوفا على ظهر غنم أنه لا يجوز لأن الموهوب متصل بما ليس بموهوب وهذا يمنع صحة [ ص: 126 ] القبض ولو جزه وسلمه جاز لزوال المانع والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                وعلى هذا إذا وهب دابة وعليها حمل بدون الحمل لا تجوز ولو رفع الحمل عنها وسلمها فارغا جاز لما قلنا بخلاف هبة ما في بطن جاريته أو ما في بطن غنمه أو ما في ضرعها أو هبة سمن في لبن أو دهن في سمسم أو زيت في زيتون أو دقيق في حنطة أنه يبطل وإن سلطه على قبضه عند الولاة أو عند استخراج ذلك لأن الموهوب هناك ليس محل العقد لكونه معدوما لهذا لم يجز بيعها فلا تجوز هبتها وهنا بخلافه على ما تقدم ومنها أهلية القبض وهي العقل فلا يجوز قبض المجنون والصبي الذي لا يعقل وأما البلوغ فليس بشرط لصحة القبض استحسانا فيجوز قبض الصبي العاقل ما وهب له والقياس أن يكون شرطا ولا يجوز قبض الصبي وإن كان عاقلا .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن القبض من باب الولاية ولا ولاية له على نفسه فلا يجوز قبضه في الهبة كما لا يجوز في البيع .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن قبض الهبة من التصرفات النافعة المحضة فيملكه الصبي العاقل كما يملك وليه ومن هو في عياله وكذا الصبية إذا عقلت جاز قبضها لما قلنا وكذلك الحرية ليست بشرط فيجوز قبض العبد المحجور عليه إذا وهب له هبة ولا يجوز قبض المولى عنه سواء كان على العبد دين أولا فالقبض إلى العبد والملك للمولى في المقبوض لأن القبض من حقوق العقد والعقد وقع للعبد فكان القبض إليه ولأن الأصل في بني آدم الحرية والرق لعارض فكان الأصل فيهم إطلاق التصرف لهم والانحجار لعارض الرق عن التصرف يتضمن الضرر بالمولى ولم يوجد فبقي فيه على أصل الحرية والمقبوض كسب العبد وكسب العبد القن للمولى وكذلك المكاتب إذا وهب له هبة فالقبض إليه ولا يجوز قبض المولى عنه لما قلنا في القن فإذا قبض المكاتب فهو أحق به فلا يملكه المولى لأن الهبة كسبه والمكاتب أحق باكتسابه ومنها الولاية في أحد نوعي القبض وجملة الكلام فيه أن القبض نوعان قبض بطريق الأصالة وقبض بطريق النيابة .

                                                                                                                                ( أما ) القبض بطريق الأصالة فهو أن يقبض بنفسه لنفسه وشرط جوازه العقل فقط على ما بينا .

                                                                                                                                ( وأما ) القبض بطريق النيابة فالنيابة في القبض نوعان نوع يرجع إلى القابض ونوع يرجع إلى نفس القبض أما الأول الذي يرجع إلى القابض فهو القبض للصبي وشرط جوازه الولاية بالحجر والعيلة عند عدم الولاية فيقبض للصبي وليه أو من كان الصبي في حجره وعياله عند عدم الولي فيقبض له أبوه ثم وصي أبيه بعده ثم جده أبو أبيه بعد أبيه ووصيه ثم وصي جده بعده سواء كان الصبي في عيال هؤلاء أو لم يكن فيجوز قبضهم على هذا الترتيب حال حضرتهم لأن هؤلاء ولاية عليهم فيجوز قبضهم له .

                                                                                                                                وإذا غاب أحدهم غيبة منقطعة جاز قبض الذي يتلوه في الولاية لأن التأخير إلى قدوم الغائب تفويت المنفعة على الصغير فتنتقل الولاية إلى من يتلوه وإن كان دونه كما في ولاية الإنكاح ولا يجوز قبض غير هؤلاء الأربعة مع وجود واحد منهم سواء كان الصبي في عيال القابض أو لم يكن وسواء كان ذا رحم محرم منه كالأخ والعم والأم ونحوهم أو أجنبيا لأنه ليس لغير هؤلاء ولاية التصرف في مال الصبي فقيام ولاية التصرف لهم تمنع ثبوت حق القبض لغيرهم فإن لم يكن أحد من هؤلاء الأربعة جاز قبض من كان الصبي في حجره وعياله استحسانا والقياس أن لا يجوز لعدم الولاية ولا يجوز قبض من لم يكن في عياله أجنبيا كان أو ذا رحم محرم منه قياسا واستحسانا وإنما كان كذلك لأن الذي في عياله له عليه ضرب ولاية ألا ترى أنه يؤدبه ويسلمه في الصنائع التي للصبي فيها منفعة وللصبي في قبض الهبة منفعة محضة فقيام هذا القدر من الولاية يكفي لتصرف فيه منفعة محضة للصبي .

                                                                                                                                ( وأما ) من ليس في عياله فلا ولاية له عليه أصلا فلا يجوز قبضه له كالأجنبي والقبض للصبية إذا عقلت ولها زوج قد دخل بها زوجها أيضا استحسانا لأنها في عياله لكن هذا إذا لم يكن أحد من هؤلاء فأما عند وجود واحد منهم فلا يجوز قبض الزوج كذا ذكره الحاكم الجليل في مختصره .

                                                                                                                                ( وأما ) الثاني الذي يرجع إلى نفس القبض فهو أن القبض الموجود في الهبة ينوب عن قبض الهبة سواء كان الموجود وقت العقد مثل قبض الهبة أو أقوى منه لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب إذ المتماثلان غيران ينوب كل واحد منهما مقام صاحبه ويسد مسده فتثبت المناوبة مقتضى المماثلة وإذا كان أقوى منه يوجد فيه المستحق وزيادة وبيان هذا في مسائل إذا كان الموهوب في يد الموهوب له وديعة أو عارية [ ص: 127 ] فوهب منه جازت الهبة وصار قابضا بنفس العقد ووقع العقد والقبض معا ولا يحتاج إلى تجديد القبض بعد العقد استحسانا والقياس أن لا يصير قابضا ما لم يجدد القبض وهو أن يخلي بين نفسه وبين الموهوب بعد العقد .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن يد المودع إن كانت يده صورة فهي يد المودع معنى فكان المال في يده فصار كأنه وهب ما في يده فلا بد من القبض بالتخلية .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن القبضين متماثلان لأن كل واحد منهما قبض غير مضمون إذ الهبة عقد تبرع وكذا عقد الوديعة والعارية فتماثل القابضان فيتناوبان ضرورة بخلاف بيع الوديعة والعارية من المودع والمستعير لأن قبضهما لا ينوب عن قبض البيع لأن قبض الهبة أمانة وقبض البيع قبض ضمان فلم يتماثل القبضان بل الموجود أدنى من المستحق فلم يتناوبا ولو كان الموهوب في يده مغصوبا أو مقبوضا ببيع فاسد أو مقبوضا على سوم الشراء فكذا ينوب ذلك عن قبض الهبة لوجود المستحق بالعقد وهو أصل القبض وزيادة ضمان .

                                                                                                                                ولو كان الموهوب مرهونا في يده ذكر في الجامع أنه يصير قابضا وينوب قبض الرهن عن قبض الهبة لأن قبض الهبة قبض أمانة وقبض الرهن في حق العين قبض أمانة أيضا فيتماثلان فناب أحدهما عن الآخر ولئن كان قبض الرهن قبض ضمان فقبض الضمان أقوى من قبض الأمانة والأقوى ينوب عن الأدنى لوجود الأدنى فيه وزيادة وإذا صحت الهبة بالقبض بطل الرهن ويرجع المرتهن بدينه على الراهن .

                                                                                                                                وذكر الكرخي أنه لا يصير قابضا حتى يجدد القبض بعد عقد الهبة لأن قبض الرهن وإن كان قبض ضمان لكن هذا ضمان لا تصح البراءة منه فلا يحتمل الإبراء بالهبة ليصير قبض أمانة فيتجانس القبضان فيبقى قبض ضمان فاختلف القبضان فلا يتناوبان بخلاف المغصوب والمقبوض على سوم الشراء لأن ذلك الضمان مما تصح البراءة عنه فيبرأ عنه بالهبة ويبقى قبض بغير ضمان فتماثل القابضان فيتناوبان ولو كان مبيعا قبل القبض فوهب من البائع جاز ولكن لا يكون هبة بل يكون إقالة حتى لا تصح بدون قبول البائع ولو باعه من البائع قبل القبض لا يجعل إقالة بل يبطل أصلا ورأسا والفرق بينهما ما ذكرنا في كتاب البيوع ولو نحل ابنه الصغير شيئا جاز ويصير قابضا له مع العقد كما إذا باع ماله منه حتى لو هلك عقيب البيع يهلك من مال الابن لصيرورته قابضا للصغير مع العقد وينبغي للرجل أن يعدل بين أولاده في النحلى لقوله سبحانه وتعالى { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } .

                                                                                                                                ( وأما ) كيفية العدل بينهم فقد قال أبو يوسف العدل في ذلك أن يسوي بينهم في العطية ولا يفضل الذكر على الأنثى وقال محمد العدل بينهم أن يعطيهم على سبيل الترتيب في المواريث للذكر مثل حظ الأنثيين كذا ذكر القاضي الاختلاف بينهما في شرح مختصر الطحاوي وذكر محمد في الموطإ ينبغي للرجل أن يسوي بين ولده في النحل ولا يفضل بعضهم على بعض .

                                                                                                                                وظاهر هذا يقتضي أن يكون قوله مع قول أبي يوسف وهو الصحيح لما روي أن بشيرا أبا النعمان أتى بالنعمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ولدك نحلته مثل هذا فقال لا فقال النبي عليه الصلاة والسلام فأرجعه وهذا إشارة إلى العدل بين الأولاد في النحلة وهو التسوية بينهم ولأن في التسوية تأليف القلوب والتفضيل يورث الوحشة بينهم فكانت التسوية أولى ولو نحل بعضا وحرم بعضا جاز من طريق الحكم لأنه تصرف في خالص ملكه لا حق لأحد فيه إلا أنه لا يكون عدلا سواء كان المحروم فقيها تقيا أو جاهلا فاسقا على قول المتقدمين من مشايخنا وأما على قول المتأخرين منهم لا بأس أن يعطي المتأدبين والمتفقهين دون الفسقة الفجرة .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية