( فصل ) : 
وأما بيان حال الوديعة فحالها أنها في يد المودع أمانة ; لأن المودع مؤتمن ، فكانت الوديعة أمانة في يده ، ويتعلق بكونها أمانة أحكام : منها : وجوب الرد عند طلب المالك ، لقوله تعالى - جل شأنه - : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها    } . 
حتى لو حبسها بعد الطلب فضاعت  ضمن هذا إذا كانت الوديعة لرجل واحد ، فأما إذا كانت مشاعا لرجلين ، فجاء أحدهما ، وطلب حصته - لا يجب عليه الرد ; بأن أودع رجلان رجلا وديعة ، دراهم ، أو دنانير وثيابا ، وغاب ثم جاءه أحدهما ، وطلب بعضها ، وأبى المستودع ذلك  ، لم يأمر القاضي بدفع شيء إليه ما لم يحضر الغائب عند  أبي حنيفة  ، وقال  أبو يوسف   ومحمد    : يقسم ذلك ، ويدفع إليه حصته ، ولا يكون ذلك قسمة جائزة على الغائب بلا خلاف ; حتى لو هلك الباقي في يد المودع ، ثم جاء الغائب له أن يشارك صاحبه في المقبوض عندهم جميعا ولو هلك المقبوض في يد القابض ثم جاء الغائب فليس للقابض أن يشارك صاحبه في الباقي . 
وجه قولهما ; أن الآخذ بأخذ حصته متصرف في ملك نفسه ، فكان له ذلك من غير حضرة الغائب ، كما إذا كان لرجلين دين مشترك على رجل ، فجاء أحدهما وطلب حصته من الدين ; فإنه يدفع إليه حصته لما قلنا كذا هذا . 
( وجه ) قول  أبي حنيفة    : أن المودع لو دفع شيئا إلى الشريك الحاضر ، لا يخلو إما أن يدفع إليه من النصيبين جميعا ، وإما أن يدفع إليه من نصيبه خاصة ، لا وجه إلى الأول ; لأن دفع نصيب الغائب إليه ممتنع شرعا . 
ولا سبيل إلى الثاني ; لأن نصيبه شائع في كل الألف ; لكون الألف مشتركة بينهما ، ولا تتميز إلا بالقسمة ، والقسمة على الغائب غير جائزة ; ولو سلمنا ذلك حتى قالا : إذا جاء الغائب وقد هلك الباقي ، له أن يشارك القابض في المقبوض . 
ولو نفذت القسمة لما شاركه فيه ; لتميز حقه عن حق صاحبه بالقسمة ، والقياس على الدين المشترك غير سديد ; لأن الغريم يدفع نصيب أحد الشريكين ، بدفع مال نفسه لا مال شريكه الغائب ، وهنا يدفع مال الغائب بغير إذنه ، فلا يستقيم القياس . 
ولو كان في يده ألف درهم فجاءه رجلان وادعى كل واحد منهما أنه أودعه إياها ، فقال المودع أودعها أحدكما ولست أدري أيكما هو  ، فهذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين : إما أن اصطلح المتداعيان على أن يأخذا الألف وتكون بينهما . 
وأما إن لم يصطلحا ، وادعى كل واحد منهما أن الألف له خاصة لا لصاحبه ، فإن اصطلحا على ذلك فلهما ذلك ، وليس للمودع أن يمتنع عن تسليم الألف إليهما ; لأنه أقر أن الألف لأحدهما وإذا اصطلحا على أنها تكون بينهما ، لا يمنعان عن ذلك ، وليس لهما أن يستحلفا  [ ص: 211 ] المودع بعد الصلح ، وإن لم يصطلحا وادعى كل واحد منهما أن الألف له ، لا يدفع إلى أحدهما شيئا ; لجهالة المقر له الوديعة ، ولكل واحد منهما أن يستحلف المودع فإن استحلفه كل واحد منهما ، فالأمر لا يخلو ، إما أن يحلف لكل واحد منهما ، وإما أن ينكل لكل واحد منهما ، وإما أن يحلف لأحدهما وينكل للآخر ، فإن حلف لهما فقد انقطعت خصومتهما للحال إلى وقت إقامة البينة ، كما في سائر الأحكام ، وهل يملكان الاصطلاح على أخذ الألف بينهما بعد الاستحلاف ، فهو على الاختلاف ، والمعروف بين ،  أبي حنيفة  ،  وأبي يوسف  ، وبين  محمد  ، على قولهما لا يملكان وعلى قول  محمد  يملكان وهي مسألة الصلح بعد الحلف  ، وقد مرت في كتاب الصلح . 
وإن نكل لهما يقضى بالألف بينهما نصفين ، ويضمن ألفا أخرى بينهما ، فيحصل لكل واحد منهما ألف كاملة لأن كل واحد منهما يدعي أن كل الألف له فإذا نكل له والنكول بذل أو إقرار ، فكأنه بذل لكل واحد منهما ألفا ، أو أقر لكل واحد منهما بألف ، فيقضى عليه بينهما بألف ، ويضمن أيضا ألفا أخرى ، تكون بينهما ; ليحصل لكل واحد منهما ألف كاملة ، لو حلف لأحدهما ونكل للآخر ، قضى بالألف للذي نكل له ، ولا شيء للذي حلف له ; لأن النكول حجة من نكل له لا حجة من حلف له ، ومنها وجوب الأداء إلى المالك ; لأن الله أمر بأداء الأمانات إلى أهلها ، وأهلها مالكها . 
حتى لو ردها إلى منزل المالك ، فجعلها فيه ، أو دفعها إلى من هو في عيال المالك  ، دخلت في ضمانه ، حتى لو ضاعت ; يضمن ، بخلاف العارية ، فإن المستعير لو جاء بمتاع العارية وألقاها في دار المعير ، أو جاء بالدابة فأدخلها في إصطبله - كان ردا صحيحا ; لأن ظاهر النص الذي تلونا أن لا يصح ، إلا أنها صارت مخصوصة عن عموم الآيات ، فبقيت الوديعة على ظاهره ; ولأن القياس في الموضعين ما ذكرنا من لزوم الرد إلى المالك ، إلا أنا استحسنا في العارية للعادة الجارية فيها بردها إلى بيت المالك ، أو بدفعها إلى من في عياله ، حتى لو كانت العارية شيئا نفيسا ، كعقد جوهر ونحو ذلك ; لا يصح الرد ; لانعدام جريان العادة بذلك في الأشياء النفيسة ، ولم تجر به العادة في مال الوديعة ، فتبقى على أصل القياس ; ولأن مبنى الإيداع على الستر والإغفاء عادة ، فإن الإنسان إنما يودع مال غيره سرا عن الناس ، لما يتعلق به من المصلحة ، فلو رده على غير المالك لانكشف . 
إذ السر إذا جاوز اثنين يفشو ، فيفوت المعنى المجعول له الإيداع ، بخلاف العارية ; لأن مبناها على الإعلان ، والإظهار ; لأنها شرعت لحاجة المستعير إلى استعمالها في حوائجه ، ولا يمكنه الاستعمال سرا عن الناس عادة ، والرد إلى غير المالك لا يفوت ما شرعت له العارية ، فهو الفرق ، ومنها : أنه إذا ضاعت في يد المودع بغير صنعه  ، لا يضمن ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال {   : ليس على المستعير غير المغل الضمان ولا على المستودع غير المغل الضمان   } ; ولأن يده يد المالك ، فالهلاك في يده كالهلاك في يد المالك ، وكذلك إذا دخلها نقص ; لأن النقصان هلاك بعض الوديعة ، وهلاك الكل لا يوجب الضمان ، فهلاك البعض أولى ومنها أن المودع مع المودع إذا اختلفا ، فقال المودع : هلكت أو ; قال : رددتها إليك وقال المالك : بل استهلكتها  فالقول قول المودع ; لأن المالك يدعي على الأمين أمرا عارضا ، وهو التعدي ، والمودع مستصحب لحال الأمانة ، فكان متمسكا بالأصل ، فكان القول قوله ، لكن مع اليمين ; لأن التهمة قائمة ، فيستحلف دفعا للتهمة ، وكذلك إذا قال : المودع استهلكت من غير إذني وقال المودع : بل استهلكتها أنت  ، أو غيرك بأمرك ، أن القول قول المودع ; لما قلنا ولو قال : إنها قد ضاعت ، ثم قال بعد ذلك : بل كنت رددتها إليك ، لكنى أوهمت  لم يصدق ، وهو ضامن ; لأنه نفى الرد بدعوى الهلاك ، ونفى الهلاك بدعوى الرد ، فصار نافيا ما أثبته مثبتا ما نفاه ، وهذا تناقض ، فلا تسمع منه دعوى الضياع والرد ; لأن المناقض لا قول له ; ولأنه لما ادعى دعوتين وأكذب نفسه في كل واحدة منهما فقد ذهبت أمانته ، فلا يقبل قوله . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					