الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) العدد في الشهادة بما يطلع عليه الرجال لقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ( وقوله ) سبحانه وتعالى { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ; ولأن الواجب على الشاهد إقامة الشهادة لله - عز وجل - " الآية " وهو قوله تعالى { وأقيموا الشهادة لله } ، وقوله تعالى { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } ولا تقع الشهادة لله إلا وأن تكون خالصة صافية عن جر النفع .

                                                                                                                                ومعلوم أن في الشهادة منفعة للشاهد من حيث التصديق ; ; لأن من صدق قوله يتلذذ به ، فلو قبل قول الفرد لم تخل شهادته عن جر النفع إلى نفسه ، فلا يخلص لله عز وجل ، فشرط العدد في الشهادة ليكون كل واحد مضافا إلى قول صاحبه ، فتصفو الشهادة لله - عز شأنه - ; ولأنه إذا كان فردا يخاف عليه السهو والنسيان ; لأن الإنسان مطبوع على السهو والغفلة ، فشرط العدد في الشهادة ليذكر البعض البعض عند اعتراض السهو والغفلة ، كما قال الله تعالى في إقامة امرأتين مقام رجل في الشهادة { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ثم الشرط عدد المثنى في عموم الشهادات القائمة على ما يطلع عليه الرجال ، إلا في الشهادة بالزنا فإنه يشترط فيها عدد الأربعة لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ، وقوله تعالى { فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } .

                                                                                                                                ولأن الشهادة في هذا الباب أحد نوعي الحجة ، فتعتبر بالنوع الآخر وهو الإقرار ، ثم عدد الأقارير الأربعة شرط ظهور الزنا عندنا فكذا عدد الشهود الأربعة بخلاف سائر الحدود ، فإنه لا يشترط العدد في الإقرار لظهورها ، فكذا في الشهادة ; ولأن عدد الأربعة في الزنا ثبت نصا بخلاف القياس ; لأن خبر من ليس بمعصوم من الكذب لا يخلو عن احتمال الكذب ، وعدد الأربعة في احتمال الكذب ، مثل عدد المثنى ما لم يدخل في حد التواتر ، لكنا عرفناه شرطا بنص خاص معدولا به عن القياس فبقي سائر الأبواب على أصل القياس وأما فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والعيوب الباطنة في النساء فالعدد فيه ليس [ ص: 278 ] بشرط عندنا ، فتقبل فيه شهادة امرأة واحدة والثنتان أحوط ، وعند مالك والشافعي - رحمهما الله - أن العدد فيه شرط ، إلا أن عند مالك - رحمه الله - يكتفى فيه بامرأتين ، وعند الشافعي - رحمه الله - لا بد من الأربع ، وجه قول مالك أن شهادة الرجال لما سقط اعتبارها في هذا الباب لمكان الضرورة وجب الاكتفاء بعددهم من النساء ، ووجه قول الشافعي - رحمه الله - أن الشرع أقام كل امرأتين في باب الشهادة مقام رجل واحد ، ثم لا يكتفى بأقل من رجلين ، فلا يكتفى بأقل من أربع نسوة .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن شرط العدد في الشهادة في الأصل ثبت تعبدا غير معقول المعنى ; ; لأن خبر من ليس بمعصوم عن الكذب لا يفيد العلم قطعا ويقينا ، وإنما يفيده غالب الرأي وأكثر الظن ، وهذا ثبت بخبر الواحد العدل ، ولهذا لم يشترط العدد في رواية الأخبار إلا أنا عرفنا العدد فيها شرطا بالنص ، والنص ورد بالعدد في شهادة النساء في حالة مخصوصة ، وهي أن يكون معهن رجل بقوله تعالى عز شأنه : { فرجل وامرأتان } ، فبقيت حالة الانفراد عن الرجال على أصل القياس وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل شهادة القابلة على الولادة ، ولو شهد رجل واحد بالولادة يقبل ; لأنه لما قبل شهادة امرأة واحدة فشهادة رجل واحد أولى ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية