وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال : إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل . ونزل في العريش ومعه  أبو بكر  وهو يدعو ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، ولم يزل حتى سقط رداؤه ، فوضعه عليه  أبو بكر  ، ثم قال له : كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك . وأغفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش إغفاءة ، وانتبه ثم قال : يا أبا بكر ، أتاك نصر الله ، هذا جبرائيل  آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع ، وأنزل الله : إذ تستغيثون ربكم  الآية . 
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر  ، وحرض المسلمين ، وقال : والذي نفس محمد  بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل ، فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة   . فقال  عمير بن الحمام الأنصاري  وبيده تمرات يأكلهن : بخ   [ ص: 21 ] بخ ! ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ! ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل   . ورمي  مهجع  ، مولى   عمر بن الخطاب  ، بسهم فقتل ، فكان أول قتيل . ثم رمي  حارثة بن سراقة الأنصاري  فقتل ، وقاتل   عوف بن عفراء  حتى قتل ، واقتتل الناس قتالا شديدا . فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفنة من التراب ورمى بها قريشا  وقال : شاهت الوجوه . وقال لأصحابه : شدوا عليهم ، فكانت الهزيمة ، فقتل الله من قتل من المشركين ، وأسر من أسر منهم . 
ولما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش   وسعد بن معاذ  قائم على باب العريش متوشحا بالسيف في نفر من الأنصار  يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخافون عليه كرة العدو ، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجه   سعد بن معاذ  الكراهية لما يصنع الناس من الأسر ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لكأنك تكره ذلك يا سعد ؟ قال : أجل يا رسول الله ، أول وقعة أوقعها الله بالمشركين كان الإثخان أحب إلي من استبقاء الرجال   . 
وكان أول من لقي  أبا جهل   معاذ بن عمرو بن الجموح  ، وقريش  محيطة به يقولون : لا يخلص إلى  أبي الحكم     . قال  معاذ     : فجعلته من شأني ، فلما أمكنني حملت عليه ، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه ، وضربني ابنه  عكرمة  فطرح يدي من عاتقي ، فتعلقت بجلدة من جثتي ، فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي ، فلما آذتني جعلت عليها رجلي ، ثم تمطيت حتى طرحتها . 
وعاش  معاذ  إلى زمان  عثمان     - رضي الله عنه - . 
ثم مر بأبي جهل    معوذ بن عفراء  فضربه حتى أثبته ، وتركه وبه رمق ، ثم مر به   ابن مسعود  ، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلتمس في القتلى ، فوجده بآخر رمق ، قال : فوضعت رجلي على عنقه ، ثم قلت : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ؟ أعمد من رجل قتلتموه ، أخبرني لمن الدائرة ؟ قلت : لله ولرسوله . فقال له  أبو جهل     : لقد ارتقيت - يا رويعي الغنم - مرتقى صعبا ! قال : فقلت : إني قاتلك . قال : ما أنت بأول عبد قتل سيده ، أما إن أشد شيء لقيته اليوم قتلك إياي ، وألا قتلني رجل من المطيبين   [ ص: 22 ] الأحلاف . فضربه عبد الله ، فوقع رأسه بين رجليه ، فحمله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسجد شكرا لله   . 
وكان   عبد الرحمن بن عوف  قد غنم أدراعا ، فمر  بأمية بن خلف  وابنه  علي  ، فقالا له : نحن خير لك من هذه الأدراع . فطرح الأدراع وأخذ بيده وبيد ابنه ومشى بهما ، فقال له  أمية     : من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره ؟ قال :   حمزة بن عبد المطلب     . قال  أمية     : هو الذي فعل بنا الأفاعيل . 
ورأى  بلال  أمية  ، وكان يعذبه بمكة  ، فيخرج به إلى رمضاء مكة  ، فيضجعه على ظهره ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ويقول : لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد  ، فيقول بلال : أحد أحد ، فلما رآه بلال قال :  أمية     ! رأس الكفر ! لا نجوت إن نجا ! ثم صرخ : يا أنصار الله ، رأس الكفر رأس الكفر  أمية بن خلف  ، لا نجوت إن نجا ! فأحاط بهم المسلمون ، وقتل  أمية  وابنه  علي  ، وكان  عبد الرحمن  يقول : رحم الله  بلالا  ، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري . 
وقتل  حنظلة بن أبي سفيان بن حرب  ، قتله   علي بن أبي طالب     . 
ولما انهزم المشركون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقتل  أبو البختري بن هشام  ؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة  ، وكان ممن اهتم في نقض الصحيفة ، فلقيه  المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار   ومعه زميل له ، فقال له : إن رسول الله قد نهى عن قتلك . فقال وزميلي ؟ فقال  المجذر     : لا والله . قال : إذا والله لأموتن أنا وهو ، ولا تتحدث نساء قريش  أني تركت زميلي حرصا على الحياة . فقتله ، ثم أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبره . 
وجيء  بالعباس  ، أسره   أبو اليسر  ، وكان مجموعا ، وكان  العباس  جسيما ، فقيل  لأبي اليسر     : كيف أسرته ؟ قال : أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ، بهيئة كذا وكذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لقد أعانك عليه ملك كريم   . ولما أمسى  العباس  مأسورا بات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساهرا أول ليلة ، فقال له أصحابه : يا رسول الله ، ما لك لا تنام ؟ فقال : سمعت   [ ص: 23 ] تضور  العباس  في وثاقه ، فمنع مني النوم . فقاموا إليه فأطلقوه ، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   . 
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه يومئذ : قد عرفت رجالا من بني هاشم  وغيرهم أخرجوا كرها  ، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم  فلا يقتله ، ومن لقي   العباس بن عبد المطلب  فلا يقتله ؛ فإنه أخرج كرها . فقال   أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة     : أنقتل أبناءنا وآباءنا وإخواننا ونترك  العباس  ؟ والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف . فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال  لعمر     : يا  أبا حفص  ، أما تسمع قول  أبي حذيفة  ؟ أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟ فقال  أبو حذيفة     : لا أزال خائفا من تلك الكلمة ، ولا يكفرها عني إلا الشهادة . فقتل يوم اليمامة  شهيدا . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : قد رأيت جبرائيل  وعلى ثناياه النقع   . 
فقال رجل من بني غفار    : أقبلت أنا وابن عم لي ، فصعدنا جبلا يشرف بنا على بدر  ونحن مشركان ، ننظر لمن تكون الدائرة فننتهب ، فدنت منا سحابة ، فسمعت فيها حمحمة الخيل ، وسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم ، قال : فأما ابن عمي فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت   . 
وقال  أبو داود المازني     : إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه ، فعرفت أنه قتله غيري . 
وقال   سهل بن حنيف     : كان أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف . 
فلما هزم الله المشركين ، وقتل منهم من قتل ، وأسر من أسر ، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تطرح القتلى في القليب  ، فطرحوا فيه إلا أمية بن خلف ؛ فإنه انتفخ في درعه فملأها ، فذهبوا به ليخرجوه فتقطع ، وطرحوا عليه من التراب والحجارة ما غيبه ، ولما ألقوا في القليب وقف عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : يا أهل القليب ، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ! كذبتموني وصدقني الناس ! ثم قال : يا  عتبة  ، يا  شيبة  ، يا  أمية بن خلف  ، يا  أبا جهل بن هشام     - وعدد من كان في القليب - هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا . فقال له أصحابه : أتكلم قوما موتى ؟ فقال : ما أنتم بأسمع   [ ص: 24 ] لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني   . 
ولما قال - صلى الله عليه وسلم - لأهل القليب ما قال رأى في وجه   أبي حذيفة بن عتبة  الكراهية وقد تغير ، فقال : لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء ؟ قال : لا والله يا رسول الله ، ما شككت في أبي وفي مصرعه ، ولكنه كان له عقل وحلم وفضل ، فكنت أرجو له الإسلام ، فلما رأيت ما مات عليه من الكفر أحزنني ذلك ، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير   . 
				
						
						
