[ ص: 257 ] 554
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة .
ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=33913ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وملكه جميع إفريقية
قد ذكرنا سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ملك
الفرنج مدينة
المهدية من صاحبها
الحسن بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي ، وذكرنا أيضا سنة إحدى وخمسين ما فعله
الفرنج بالمسلمين في زويلة المدينة المجاورة للمهدية من القتل والنهب ، فلما قتلهم
الفرنج ، ونهبوا أموالهم ، هرب منهم جماعة وقصدوا
عبد المؤمن صاحب المغرب ، وهو
بمراكش ، يستجيرونه ، فلما وصلوا إليه ودخلوا عليه أكرمهم ، وأخبروه بما جرى على المسلمين ، وأنه ليس في ملوك الإسلام من يقصد سواه ، ولا يكشف هذا الكرب غيره ، فدمعت عيناه ، وأطرق ، ثم رفع رأسه ، وقال : أبشروا ، لأنصرنكم ولو بعد حين .
وأمر بإنزالهم وأطلق لهم ألفي دينار ، ثم أمر بعمل الروايا والقرب والحياض وما يحتاج إليه العساكر في السفر ، وكتب إلى جميع نوابه في الغرب ، وكان قد ملك إلى قريب
تونس ، يأمرهم بحفظ جميع ما يتحصل من الغلات ، وأن يترك في سنبله ، ويخزن في مواضعه ، وأن يحفروا الآبار في الطرق ، ففعلوا جميع ما أمرهم به ، وجمعوا الغلات ثلاث سنين ونقلوها إلى المنازل ، وطينوا عليها ، فصارت كأنها تلال .
فلما كان في صفر من هذه السنة سار عن
مراكش ، وكان أكثر أسفاره في صفر ، فسار يطلب
إفريقية ، واجتمع من العساكر مائة ألف مقاتل ، ومن الأتباع والسوقة
[ ص: 258 ] أمثالهم ، وبلغ من حفظه لعساكره أنهم كانوا يمشون بين الزروع فلا تتأذى بهم سنبلة ، وإذا نزلوا صلوا جميعهم مع إمام واحد بتكبيرة واحدة ، لا يتخلف منهم أحد كائنا من كان .
وقدم بين يديه
الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي ، الذي كان صاحب
المهدية وإفريقية ، وقد ذكرنا سبب مصيره عند
عبد المؤمن ، فلم يزل يسير إلى أن وصل إلى مدينة
تونس في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة ، ( وبها صاحبها
أحمد بن خراسان ) ، وأقبل أسطوله في البحر في سبعين شينيا وطريدة وشلندى ، فلما نازلها أرسل إلى أهلها يدعوهم إلى طاعته ، فامتنعوا ، فقاتلهم من الغد أشد قتال ، فلم يبق إلا أخذها ، ودخول الأسطول إليها ، فجاءت ريح عاصف ، منعت الموحدين من دخول البلد ، فرجعوا ليباكروا القتال ويملكوه .
فلما جن الليل نزل سبعة عشر رجلا من أعيان أهلها إلى
عبد المؤمن يسألونه الأمان لأهل بلدهم ، فأجابهم إلى الأمان لهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لمبادرتهم إلى الطاعة ، وأما ما عداهم من أهل البلد ، فيؤمنهم في أنفسهم وأهاليهم ، ويقاسمهم على أموالهم وأملاكهم نصفين ، وأن يخرج صاحب البلد هو وأهله ، فاستقر ذلك ، وتسلم البلد ، وأرسل إليه من يمنع العسكر من الدخول ، وأرسل أمناءه ليقاسموا الناس على أموالهم ، وأقام عليها ثلاثة أيام ، وعرض الإسلام على من بها من
اليهود والنصارى ، فمن أسلم سلم ، ومن امتنع قتل ، وأقام
أهل تونس بها بأجرة تؤخذ عن نصف مساكنهم .
[ ص: 259 ] وسار
عبد المؤمن منها إلى
المهدية والأسطول يحاذيه في البحر ، فوصل إليها ثامن عشر رجب ، وكان حينئذ
بالمهدية أولاد ملوك
الفرنج وأبطال الفرسان ، وقد أخلوا
زويلة ، وبينها وبين
المهدية غلوة سهم ، فدخل
عبد المؤمن زويلة ، وامتلأت بالعساكر والسوقة ، فصارت مدينة معمورة في ساعة ، ومن لم يكن له موضع من العسكر نزل بظاهرها ، وانضاف إليه من
صنهاجة والعرب وأهل البلاد ما يخرج عن الإحصاء ، وأقبلوا يقاتلون
المهدية مع الأيام ، فلا يؤثر فيها ; لحصانتها ، وقوة سورها ، وضيق موضع القتال عليها ، لأن البحر دائر بأكثرها ، فكأنها كف في البحر ، وزندها متصل بالبر .
وكانت
الفرنج تخرج شجعانهم إلى أطراف العسكر ، فتنال منه وتعود سريعا ، فأمر
عبد المؤمن أن يبنى سور من غرب المدينة يمنعهم من الخروج ، وأحاط الأسطول بها في البحر ، وركب
عبد المؤمن في شيني ، ومعه
الحسن بن علي الذي كان صاحبها ، وطاف بها في البحر ، فهاله ما رأى من حصانتها ، وعلم أنها لا تفتح برا ولا بحرا ، وليس لها إلا المطاولة ، وقال
للحسن : كيف نزلت عن مثل هذا الحصن ؟ فقال : لقلة من يوثق به . وعدم القوت ، وحكم القدر . فقال : صدقت ! وعاد من البحر ، وأمر بجمع الغلات والأقوات وترك القتال ، فلم يمض غير قليل حتى صار في العسكر كالجبلين من الحنطة والشعير ، فكان من يصل إلى العسكر من بعيد يقولون : متى حدثت هذه الجبال ها هنا ؟ فيقال لهم : هي حنطة وشعير ، فيعجبون من ذلك .
وتمادى الحصار ، وفي مدته أطاع
سفاقس عبد المؤمن ، وكذلك مدينة
طرابلس ،
وجبال نفوسة ، وقصور
إفريقية وما والاها ، وفتح مدينة
قابس بالسيف ، وسير ابنه
أبا محمد عبد الله في جيش ففتح بلادا ، ثم إن
أهل مدينة قفصة لما رأوا
[ ص: 260 ] تمكن
عبد المؤمن أجمعوا على المبادرة إلى طاعته ، وتسليم المدينة إليه ، فتوجه صاحبها
يحيى بن تميم بن المعز ، ومعه جماعة من أعيانها ، وقصدوا
عبد المؤمن ، فلما أعلمه حاجبه بهم قال له
عبد المؤمن : قد اشتبه عليك ، ليس هؤلاء
أهل قفصة ، فقال له : لم يشتبه علي ، قال له
عبد المؤمن : كيف يكون ذلك
والمهدي يقول : إن أصحابنا يقطعون أشجارها ، ويهدمون أسوارها ، ومع هذا فنقبل منهم ونكف عنهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، فأرسل إليهم طائفة من أصحابه ، ومدحه شاعر منهم بقصيدة أولها :
ما هز عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة nindex.php?page=showalam&ids=16478عبد المؤمن بن علي
فوصله بألف دينار .
ولما كان في الثاني والعشرين من شعبان من السنة جاء أسطول صاحب
صقلية في مائة وخمسين شينيا غير الطرائد ، وكان قدومه من جزيرة يابسة من بلاد
الأندلس وقد سبى أهلها وأسرهم وحملهم معه ، فأرسل إليهم ملك
الفرنج يأمرهم بالمجيء إلى
المهدية ، فقدموا في التاريخ ، فلما قاربوا
المهدية حطوا شرعهم ليدخلوا الميناء ، فخرج إليهم أسطول
عبد المؤمن ، وركب العسكر جميعه ، ووقفوا على جانب البحر ، فاستعظم
الفرنج ما رأوه من كثرة العساكر ، ودخل الرعب قلوبهم ، وبقي
عبد المؤمن يمرغ وجهه على الأرض ، ويبكي ويدعو للمسلمين بالنصر ، واقتتلوا في البحر ، فانهزمت شواني
الفرنج ، وأعادوا القلوع ، وتبعهم المسلمون ، فأخذوا منهم سبع شوان ، ولو كان معهم قلوع لأخذوا أكثرها ، وكان أمرا عجيبا ، وفتحا قريبا .
[ ص: 261 ] وعاد أسطول المسلمين مظفرا منصورا ، وفرق فيهم
عبد المؤمن الأموال ، ويئس
أهل المهدية حينئذ من النجدة ، وصبروا على الحصار ستة أشهر إلى آخر شهر ذي الحجة من السنة ، فنزل حينئذ من فرسان
الفرنج إلى
عبد المؤمن عشرة ، وسألوا الأمان لمن فيها من
الفرنج على أنفسهم وأموالهم ليخرجوا منها ويعودوا إلى بلادهم ، وكان قوتهم قد فني حتى أكلوا الخيل ، فعرض عليهم الإسلام ، ودعاهم إليه ، فلم يجيبوا ، ولم يزالوا يترددون إليه أياما واستعطفوه بالكلام اللين ، فأجابهم إلى ذلك ، وأمنهم وأعطاهم سفنا ، فركبوا فيها وساروا ، وكان الزمان شتاء ، فغرق أكثرهم ولم يصل منهم إلى
صقلية إلا النفر اليسير .
وكان صاحب
صقلية قد قال : إن قتل
عبد المؤمن أصحابنا
بالمهدية قتلنا المسلمين الذين هم
بجزيرة صقلية ، وأخذنا حرمهم وأموالهم ، فأهلك الله
الفرنج غرقا ، وكانت مدة ملكهم
المهدية اثنتي عشرة سنة .
ودخل
عبد المؤمن المهدية بكرة عاشوراء من المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة ، وسماها
عبد المؤمن سنة الأخماس ، وأقام
بالمهدية عشرين يوما ، فرتب أحوالها ، وأصلح ما انثلم من سورها ، ونقل إليها الذخائر من الأقوات والرجال والعدد ، واستعمل عليها بعض أصحابه ، وجعل معه
الحسن بن علي الذي كان صاحبها ، وأمره أن يقتدي برأيه في أفعاله ، وأقطع
الحسن بها أقطاعا ، وأعطاه دورا نفيسة يسكنها ، وكذلك فعل بأولاده ، ورحل من
المهدية أول صفر من السنة إلى بلاد الغرب .
[ ص: 257 ] 554
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ .
ذِكْرُ
nindex.php?page=treesubj&link=33913مُلْكِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ الْمَهْدِيَّةِ مِنَ الْفِرِنْجِ وَمُلْكِهِ جَمِيعَ إِفْرِيقِيَّةَ
قَدْ ذَكَرْنَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مُلْكَ
الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ
الْمَهْدِيَّةِ مِنْ صَاحِبِهَا
الْحَسَنِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ الصِّنْهَاجِيِّ ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ مَا فَعَلَهُ
الْفِرِنْجُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي زَوِيلَةَ الْمَدِينَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَهْدِيَّةِ مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ ، فَلَمَّا قَتَلَهُمُ
الْفِرِنْجُ ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ ، هَرَبَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَقَصَدُوا
عَبْدَ الْمُؤْمِنِ صَاحِبَ الْمَغْرِبِ ، وَهُوَ
بِمَرَّاكُشَ ، يَسْتَجِيرُونَهُ ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ أَكْرَمَهُمْ ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا جَرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي مُلُوكِ الْإِسْلَامِ مَنْ يُقْصَدُ سِوَاهُ ، وَلَا يَكْشِفُ هَذَا الْكَرْبَ غَيْرُهُ ، فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، وَأَطْرَقَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، وَقَالَ : أَبْشِرُوا ، لَأَنْصُرَنَّكُمْ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ .
وَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ وَأَطْلَقَ لَهُمْ أَلْفَيْ دِينَارٍ ، ثُمَّ أَمَرَ بِعَمَلِ الرَّوَايَا وَالْقِرَبِ وَالْحِيَاضِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَسَاكِرُ فِي السَّفَرِ ، وَكَتَبَ إِلَى جَمِيعِ نُوَّابِهِ فِي الْغَرْبِ ، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ إِلَى قَرِيبِ
تُونُسَ ، يَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِ جَمِيعِ مَا يَتَحَصَّلُ مِنَ الْغَلَّاتِ ، وَأَنْ يُتْرَكَ فِي سُنْبُلِهِ ، وَيُخَزَّنَ فِي مَوَاضِعِهِ ، وَأَنْ يَحْفِرُوا الْآبَارَ فِي الطُّرُقِ ، فَفَعَلُوا جَمِيعَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ ، وَجَمَعُوا الْغَلَّاتِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَنَقَلُوهَا إِلَى الْمَنَازِلِ ، وَطَيَّنُوا عَلَيْهَا ، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا تِلَالٌ .
فَلَمَّا كَانَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ عَنْ
مَرَّاكُشَ ، وَكَانَ أَكْثَرُ أَسْفَارِهِ فِي صَفَرَ ، فَسَارَ يَطْلُبُ
إِفْرِيقِيَّةَ ، وَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَسَاكِرِ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ ، وَمِنَ الْأَتْبَاعِ وَالسُّوقَةِ
[ ص: 258 ] أَمْثَالُهُمْ ، وَبَلَغَ مِنْ حِفْظِهِ لِعَسَاكِرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ بَيْنَ الزُّرُوعِ فَلَا تَتَأَذَّى بِهِمْ سُنْبُلَةٌ ، وَإِذَا نَزَلُوا صَلُّوا جَمِيعُهُمْ مَعَ إِمَامٍ وَاحِدٍ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ ، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ .
وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ الصِّنْهَاجِيَّ ، الَّذِي كَانَ صَاحِبَ
الْمَهْدِيَّةِ وَإِفْرِيقِيَّةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَ مَصِيرِهِ عِنْدَ
عَبْدِ الْمُؤْمِنِ ، فَلَمْ يَزَلْ يَسِيرُ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مَدِينَةِ
تُونُسَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ ، ( وَبِهَا صَاحِبُهَا
أَحْمَدُ بْنُ خُرَاسَانَ ) ، وَأَقْبَلَ أُسْطُولُهُ فِي الْبَحْرِ فِي سَبْعِينَ شِينِيًّا وَطَرِيدَةً وَشَلَنْدَى ، فَلَمَّا نَازَلَهَا أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِهَا يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ ، فَامْتَنَعُوا ، فَقَاتَلَهُمْ مِنَ الْغَدِ أَشَدَّ قِتَالٍ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَخْذُهَا ، وَدُخُولُ الْأُسْطُولِ إِلَيْهَا ، فَجَاءَتْ رِيحٌ عَاصِفٌ ، مَنَعَتِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ ، فَرَجَعُوا لِيُبَاكِرُوا الْقِتَالَ وَيَمْلِكُوهُ .
فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ نَزَلَ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا إِلَى
عَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَسْأَلُونَهُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ بَلَدِهِمْ ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى الْأَمَانِ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِمُبَادَرَتِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ ، فَيُؤَمِّنُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ ، وَيُقَاسِمُهُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ نِصْفَيْنِ ، وَأَنْ يَخْرُجَ صَاحِبُ الْبَلَدِ هُوَ وَأَهْلُهُ ، فَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ ، وَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ يَمْنَعُ الْعَسْكَرَ مِنَ الدُّخُولِ ، وَأَرْسَلَ أُمَنَاءَهُ لِيُقَاسِمُوا النَّاسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى مَنْ بِهَا مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَمَنْ أَسْلَمَ سَلِمَ ، وَمَنِ امْتَنَعَ قُتِلَ ، وَأَقَامَ
أَهْلُ تُونُسَ بِهَا بِأُجْرَةٍ تُؤْخَذُ عَنْ نِصْفِ مَسَاكِنِهِمْ .
[ ص: 259 ] وَسَارَ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْهَا إِلَى
الْمَهْدِيَّةِ وَالْأُسْطُولُ يُحَاذِيهِ فِي الْبَحْرِ ، فَوَصَلَ إِلَيْهَا ثَامِنَ عَشَرَ رَجَبٍ ، وَكَانَ حِينَئِذٍ
بِالْمَهْدِيَّةِ أَوْلَادُ مُلُوكِ
الْفِرِنْجِ وَأَبْطَالُ الْفُرْسَانِ ، وَقَدْ أَخْلَوْا
زَوِيلَةَ ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ
الْمَهْدِيَّةِ غَلْوَةُ سَهْمٍ ، فَدَخَلَ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ زَوِيلَةَ ، وَامْتَلَأَتْ بِالْعَسَاكِرِ وَالسُّوقَةِ ، فَصَارَتْ مَدِينَةً مَعْمُورَةً فِي سَاعَةٍ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْعَسْكَرِ نَزَلَ بِظَاهِرِهَا ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ مِنْ
صِنْهَاجَةَ وَالْعَرَبِ وَأَهْلِ الْبِلَادِ مَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِحْصَاءِ ، وَأَقْبَلُوا يُقَاتِلُونَ
الْمَهْدِيَّةَ مَعَ الْأَيَّامِ ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا ; لِحَصَانَتِهَا ، وَقُوَّةِ سُورِهَا ، وَضِيقِ مَوْضِعِ الْقِتَالِ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ الْبَحْرَ دَائِرٌ بِأَكْثَرِهَا ، فَكَأَنَّهَا كَفٌّ فِي الْبَحْرِ ، وَزَنْدُهَا مُتَّصِلٌ بِالْبَرِّ .
وَكَانَتِ
الْفِرِنْجُ تَخْرُجُ شُجْعَانُهُمْ إِلَى أَطْرَافِ الْعَسْكَرِ ، فَتَنَالُ مِنْهُ وَتَعُودُ سَرِيعًا ، فَأَمَرَ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَنْ يُبْنَى سُورٌ مِنْ غَرْبِ الْمَدِينَةِ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ ، وَأَحَاطَ الْأُسْطُولَ بِهَا فِي الْبَحْرِ ، وَرَكِبَ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فِي شِينِيٍّ ، وَمَعَهُ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَهَا ، وَطَافَ بِهَا فِي الْبَحْرِ ، فَهَالَهُ مَا رَأَى مِنْ حَصَانَتِهَا ، وَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تُفْتَحُ بَرًّا وَلَا بَحْرًا ، وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا الْمُطَاوَلَةُ ، وَقَالَ
لِلْحَسَنِ : كَيْفَ نَزَلْتَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْحِصْنِ ؟ فَقَالَ : لِقِلَّةِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ . وَعَدَمِ الْقُوتِ ، وَحُكْمِ الْقَدَرِ . فَقَالَ : صَدَقْتَ ! وَعَادَ مِنَ الْبَحْرِ ، وَأَمَرَ بِجَمْعِ الْغَلَّاتِ وَالْأَقْوَاتِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ ، فَلَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى صَارَ فِي الْعَسْكَرِ كَالْجَبَلَيْنِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، فَكَانَ مَنْ يَصِلُ إِلَى الْعَسْكَرِ مِنْ بَعِيدٍ يَقُولُونَ : مَتَى حَدَثَتْ هَذِهِ الْجِبَالُ هَا هُنَا ؟ فَيُقَالُ لَهُمْ : هِيَ حِنْطَةٌ وَشَعِيرٌ ، فَيَعْجَبُونَ مِنْ ذَلِكَ .
وَتَمَادَى الْحِصَارُ ، وَفِي مُدَّتِهِ أَطَاعَ
سَفَاقُسُ عَبْدَ الْمُؤْمِنِ ، وَكَذَلِكَ مَدِينَةُ
طَرَابُلُسَ ،
وَجِبَالُ نَفُوسَةَ ، وَقُصُورُ
إِفْرِيقِيَّةَ وَمَا وَالَاهَا ، وَفَتَحَ مَدِينَةَ
قَابِسَ بِالسَّيْفِ ، وَسَيَّرَ ابْنَهُ
أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ فِي جَيْشٍ فَفَتَحَ بِلَادًا ، ثُمَّ إِنَّ
أَهْلَ مَدِينَةِ قَفْصَةَ لَمَّا رَأَوْا
[ ص: 260 ] تَمَكُّنَ
عَبْدِ الْمُؤْمِنِ أَجْمَعُوا عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى طَاعَتِهِ ، وَتَسْلِيمِ الْمَدِينَةِ إِلَيْهِ ، فَتَوَجَّهَ صَاحِبُهَا
يَحْيَى بْنُ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهَا ، وَقَصَدُوا
عَبْدَ الْمُؤْمِنِ ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ حَاجِبُهُ بِهِمْ قَالَ لَهُ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ : قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْكَ ، لَيْسَ هَؤُلَاءِ
أَهْلَ قَفْصَةَ ، فَقَالَ لَهُ : لَمْ يُشْتَبَهْ عَلَيَّ ، قَالَ لَهُ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ : كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ
وَالْمَهْدِيُّ يَقُولُ : إِنَّ أَصْحَابَنَا يَقْطَعُونَ أَشْجَارَهَا ، وَيَهْدِمُونَ أَسْوَارَهَا ، وَمَعَ هَذَا فَنَقْبَلُ مِنْهُمْ وَنَكُفُّ عَنْهُمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَمَدَحَهُ شَاعِرٌ مِنْهُمْ بِقَصِيدَةٍ أَوَّلُهَا :
مَا هَزَّ عِطْفَيِهِ بَيْنَ الْبِيضِ وَالْأَسَلِ مِثْلُ الْخَلِيفَةِ nindex.php?page=showalam&ids=16478عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيِّ
فَوَصَلَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ .
وَلَمَّا كَانَ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ جَاءَ أُسْطُولُ صَاحِبِ
صِقِلِّيَةَ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ شِينِيًّا غَيْرِ الطَّرَائِدِ ، وَكَانَ قُدُومُهُ مِنْ جَزِيرَةٍ يَابِسَةٍ مِنْ بِلَادِ
الْأَنْدَلُسِ وَقَدْ سَبَى أَهْلَهَا وَأَسَرَهُمْ وَحَمَلَهُمْ مَعَهُ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَلِكُ
الْفِرِنْجِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَجِيءِ إِلَى
الْمَهْدِيَّةِ ، فَقَدِمُوا فِي التَّارِيخِ ، فَلَمَّا قَارَبُوا
الْمَهْدِيَّةَ حَطُّوا شُرُعَهُمْ لِيَدْخُلُوا الْمِينَاءَ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أُسْطُولُ
عَبْدِ الْمُؤْمِنِ ، وَرَكِبَ الْعَسْكَرُ جَمِيعُهُ ، وَوَقَفُوا عَلَى جَانِبِ الْبَحْرِ ، فَاسْتَعْظَمَ
الْفِرِنْجُ مَا رَأَوْهُ مِنْ كَثْرَةِ الْعَسَاكِرِ ، وَدَخَلَ الرُّعْبُ قُلُوبَهُمْ ، وَبَقِيَ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ يُمَرِّغُ وَجْهَهُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَيَبْكِي وَيَدْعُو لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ ، وَاقْتَتَلُوا فِي الْبَحْرِ ، فَانْهَزَمَتْ شَوَانِي
الْفِرِنْجِ ، وَأَعَادُوا الْقُلُوعَ ، وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ ، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ سَبْعَ شَوَانٍ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ قُلُوعٌ لَأَخَذُوا أَكْثَرَهَا ، وَكَانَ أَمْرًا عَجِيبًا ، وَفَتْحًا قَرِيبًا .
[ ص: 261 ] وَعَادَ أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ مُظَفَّرًا مَنْصُورًا ، وَفَرَّقَ فِيهِمْ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الْأَمْوَالَ ، وَيَئِسَ
أَهْلُ الْمَهْدِيَّةِ حِينَئِذٍ مِنَ النَّجْدَةِ ، وَصَبَرُوا عَلَى الْحِصَارِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِلَى آخِرِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ ، فَنَزَلَ حِينَئِذٍ مِنْ فُرْسَانِ
الْفِرِنْجِ إِلَى
عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَشَرَةٌ ، وَسَأَلُوا الْأَمَانَ لِمَنْ فِيهَا مِنَ
الْفِرِنْجِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِيَخْرُجُوا مِنْهَا وَيَعُودُوا إِلَى بِلَادِهِمْ ، وَكَانَ قُوتُهُمْ قَدْ فَنِيَ حَتَّى أَكَلُوا الْخَيْلَ ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ ، وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يُجِيبُوا ، وَلَمْ يَزَالُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ أَيَّامًا وَاسْتَعْطَفُوهُ بِالْكَلَامِ اللَّيِّنِ ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ ، وَأَمَّنَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ سُفُنًا ، فَرَكِبُوا فِيهَا وَسَارُوا ، وَكَانَ الزَّمَانُ شِتَاءً ، فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمْ إِلَى
صِقِلِّيَةَ إِلَّا النَّفَرُ الْيَسِيرُ .
وَكَانَ صَاحِبُ
صِقِلِّيَةَ قَدْ قَالَ : إِنْ قَتَلَ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَصْحَابَنَا
بِالْمَهْدِيَّةِ قَتَلْنَا الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ
بِجَزِيرَةِ صِقِلِّيَةَ ، وَأَخَذْنَا حُرَمَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ
الْفِرِنْجَ غَرَقًا ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِمُ
الْمَهْدِيَّةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَدَخَلَ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ الْمَهْدِيَّةَ بُكْرَةَ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةِ ، وَسَمَّاهَا
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ سَنَةَ الْأَخْمَاسِ ، وَأَقَامَ
بِالْمَهْدِيَّةِ عِشْرِينَ يَوْمًا ، فَرَتَّبَ أَحْوَالَهَا ، وَأَصْلَحَ مَا انْثَلَمَ مِنْ سُورِهَا ، وَنَقَلَ إِلَيْهَا الذَّخَائِرَ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَالرِّجَالِ وَالْعُدَدِ ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ ، وَجَعَلَ مَعَهُ
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَهَا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِرَأْيِهِ فِي أَفْعَالِهِ ، وَأَقْطَعَ
الْحَسَنَ بِهَا أَقْطَاعًا ، وَأَعْطَاهُ دُورًا نَفِيسَةً يَسْكُنُهَا ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِأَوْلَادِهِ ، وَرَحَلَ مِنَ
الْمَهْدِيَّةِ أَوَّلَ صَفَرَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى بِلَادِ الْغَرْبِ .