ذكر حالة ينبغي للملوك أن يحترزوا من مثلها  
حدثني والدي ، رحمه الله ، قال : كنت أتولى جزيرة ابن عمر  لقطب الدين  ، كما علمتم ، فلما كان قبل موته بيسير أتانا كتاب من الديوان بالموصل  يأمرون بمساحة جميع بساتين العقيمة  ، وهذه العقيمة  هي قرية تحاذي الجزيرة بينهما دجلة  ، ولها   [ ص: 355 ] بساتين كثيرة بعضها يمسح فيؤخذ منه على كل جريب شيء معلوم ، وبعضها عليه خراج ، وبعضها مطلق من الجميع . 
قال : وكان لي فيها ملك كثير ، فكنت أقول : إن المصلحة أن لا يغير على الناس شيء ، وما أقول هذا لأجل ملكي ، فإنني أنا أمسح ملكي ، وإنما أريد أن يدوم الدعاء من الناس للدولة ، فجاءني كتاب النائب يقول : لا بد من المساحة ، قال : فأظهرت الأمر ، وكان بها قوم صالحون ، لي بهم أنس ، وبيننا مودة ، فجاءني الناس كلهم ، وأولئك معهم ، يطلبون المراجعة ، فأعلمتهم أنني رجعت وما أجبت إلى ذلك ، فجاءني منهم رجلان أعرف صلاحهما ، وطلبا مني المعاودة ومخاطبة ثانية ، ففعلت ، فأصروا على المسح ، فعرفتهما الحال . 
قال : فما مضى إلا عدة أيام ، وإذ قد جاءني الرجلان ، فلما رأيتهما ظننت أنهما جاءا يطلبان المعاودة ، فعجبت منهما ، وأخذت أعتذر إليهما ، فقالا : ما جئنا إليك في هذا ، وإنما جئنا نعرفك أن حاجتنا قضيت ، قال : فظننت أنهما قد أرسلا إلى الموصل  إلى من يشفع لهما ، فقلت : من الذي خاطب في هذا بالموصل  ؟ فقالا : إن حاجتنا قد قضيت من السماء ، ولكافة أهل العقيمة    . 
قال : فظننت أن هذا مما قد حدثا به نفوسهما ، ثم قاما عني ، لم يمض غير عشرة أيام وإذ قد جاءنا كتاب من الموصل  يأمرون بإطلاق المساحة والمحبسين والمكوس ، ويأمرون بالصدقة ، ويقال : إن السلطان ، يعني  قطب الدين  ، مريض ، يعني على حالة شديدة ، ثم بعد يومين أو ثلاثة جاءنا الكتاب بوفاته ، فعجبت من قولهما ، واعتقدته كرامة لهما ، فصار والدي بعد ذلك يكثر إكرامهما واحترامهما ويزورهما . 
				
						
						
