[ ص: 227 ] ذكر حال ابن  زياد  بعد موت  يزيد   
لما مات  يزيد  وأتى الخبر   عبيد الله بن زياد  مع مولاه  حمران  ، وكان رسوله إلى   معاوية بن أبي سفيان  ، ثم إلى  يزيد  بعده ، فلما أتاه الخبر أسره إليه وأخبره باختلاف الناس في الشام  ، فأمر فنودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، وصعد المنبر فنعى  يزيد     ( وثلبه ، فقال   الأحنف     : إنه قد كانت  ليزيد  في أعناقنا بيعة ، ويقال في المثل : أعرض عن ذي فنن ، وأعرض عنه  عبيد الله     ) ، وقال : يا أهل البصرة  إن مهاجرنا إليكم ودارنا فيكم ، ومولدي فيكم ، ولقد وليتكم وما يحصي ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألفا ، ولقد أحصى اليوم مائة ألف ، وما كان يحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا ، ولقد أحصى اليوم مائة وأربعين ألفا ، وما تركت لكم ذا ظنة أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم ، وإن  يزيد  قد توفي وقد اختلف الناس بالشام  وأنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضهم فناء وأغناهم عن الناس وأوسعهم بلادا ، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترضونه لدينكم وجماعتكم ، فأنا أول راض من رضيتموه ، فإن اجتمع أهل الشام  على رجل ترضونه لدينكم وجماعتكم دخلتم فيما دخل فيه المسلمون ، وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم حتى تعطوا حاجتكم ، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة ولا يستغني الناس عنكم . 
فقام خطباء أهل البصرة  وقالوا : قد سمعنا مقالتك وما نعلم أحدا أقوى عليها منك ، فهلم فلنبايعك . 
فقال : لا حاجة لي في ذلك . 
فكرروا عليه فأبى عليهم ثلاثا ، ثم بسط يده فبايعوه ثم انصرفوا ومسحوا أيديهم بالحيطان وقالوا : أيظن ابن مرجانة أننا ننقاد له في الجماعة والفرقة ! 
فلما بايعوه أرسل إلى أهل الكوفة   مع  عمرو بن مسمع  وسعد بن القرحاء التميمي  يعلم أهل الكوفة   ما صنع أهل البصرة  ويدعوهم إلى البيعة له ، فلما وصلا إلى الكوفة  ،   [ ص: 228 ] وكان خليفته عليها   عمرو بن حريث  ، جمع الناس وقام الرسولان فخطبا أهل الكوفة  وذكرا لهم ذلك ، فقام  يزيد بن الحارث بن يزيد الشيباني  ، وهو ابن رويم ، فقال : الحمد لله الذي أراحنا من ابن سمية ! أنحن نبايعه ؟ لا ولا كرامة ! وحصبهما أول الناس ثم حصبهما الناس بعده ، فشرفت تلك الفعلة  يزيد بن رويم  في الكوفة  ورفعته . 
ورجع الرسولان إلى البصرة  فأعلماه الحال ، فقال أهل البصرة    : أيخلعه أهل الكوفة  ونوليه نحن ! فضعف سلطانه عندهم ، فكان يأمر بالأمر فلا يقضى ، ويرى الرأي فيرد عليه ، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه . 
ثم جاء إلى البصرة  سلمة بن ذؤيب الحنظلي التميمي  فوقف في السوق وبيده لواء وقال : أيها الناس هلموا إلي ، إني أدعوكم إلى ما لم يدعكم إليه أحد ، أدعوكم إلى العائذ بالحرم ، يعني  عبد الله بن الزبير     . 
فاجتمع إليه ناس وجعلوا يصفقون على يديه يبايعونه . 
فبلغ الخبر  ابن زياد  ، فجمع الناس فخطبهم وذكر لهم أمره معهم وأنه دعاهم إلى من يرتضونه ، فبايعه منهم أهل البصرة  وأنهم أبوا غيره ، وقال : إني بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار وقلتم ما قلتم ، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ ويرد علي رأيي ويحال بين أعواني وبين طلبتي ، ثم إن هذا  سلمة بن ذؤيب  يدعو إلى الخلاف عليكم ليفرق جماعتكم ويضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف . 
فقال   الأحنف  والناس : نحن نأتيك  بسلمة  ، فأتوه  بسلمة  فإذا جمعه قد كثف والفتق قد اتسع ، فلما رأوا ذلك قعدوا عن  ابن زياد  فلم يأتوه . 
فدعا  عبيد الله  رؤساء محاربة السلطان وأرادهم ليقاتلوا معه ، قالوا : إن أمرنا فؤادنا فعلنا . 
فقال له إخوته : ما من خليفة فتقاتل عنه فإن هزمت رجعت إليه فأمدك ، ولعل الحرب تكون عليك ( وقد اتخذنا بين هؤلاء القوم أموالا ) فإن ظفروا بنا أهلكونا وأهلكوها فلم تبق لك بقية . 
فلما رأى ذلك أرسل إلى  الحارث بن قيس بن صهباء الجهضمي الأزدي  فأحضره ، وقال له : يا  حارث  إن أبي أوصاني أني إن احتجت إلى الهرب يوما أن أختاركم . 
فقال  الحارث     : إن قومي قد اختبروا أباك ، فلم يجدوا عنده مكانا ، ولا عندك مكافأة ، ولا أردك   [ ص: 229 ] إذا اخترتنا ، وما أدري كيف أماني لك ، إن أخرجتك نهارا أخاف أن تقتل وأقتل ، ولكني أقيم معك إلى الليل ثم أردفك خلفي لئلا تعرف . 
فقال  عبيد الله     : نعم ما رأيت . 
فأقام عنده فلما كان الليل حمله خلفه . 
وكان في بيت المال تسعة عشر ألف ألف ، ففرق  ابن زياد  بعضها في مواليه وادخر الباقي فبقي لآل زياد    . 
وسار  الحارث  بعبيد الله بن زياد  ، فكان يمر به على الناس وهم يتحارسون مخافة الحرورية  ،  وعبيد الله  يسأله : أين نحن ؟  والحارث  يخبره ، فلما كانوا في بني سليم  قال : أين نحن ؟ قال : في بني سليم    . 
قال : سلمنا إن شاء الله . 
فلما أتى بني ناجية  قال : أين نحن ؟ قال : في بني ناجية    . قال : نجونا إن شاء الله . 
فقال بنو ناجية    : من أنت ؟ قال :   الحارث بن قيس  ، وكان يعرف رجل منهم  عبيد الله  ، فقال ابن مرجانة ! وأرسل سهما فوقع في عمامته . 
ومضى به  الحارث  فأنزله في دار نفسه في الجهاضم  ، فقال له  ابن زياد     : يا  حارث  إنك أحسنت فاصنع ما أشير به عليك ، قد علمت منزلة  مسعود بن عمرو  في قومه وشرفه وسنه وطاعة قومه له ، فهل لك أن تذهب بي إليه فأكون في داره فهي في وسط الأزد ، فإنك إن لم تفعل فرق عليك أمر قومك . 
فأخذه  الحارث  فدخلا على  مسعود  ، ولم يشعر وهو جالس يصلح خفا له ، فلما رآهما عرفهما فقال  الحارث     : أعوذ بالله من شر طرقتني به ! قال : ما طرقتك إلا بخير ، ( قد علمت أن قومك أنجوا  زيادا  ووفوا له فصارت مكرمة يفتخرون بها على العرب ) ، وقد بايعتم  عبيد الله  بيعة الرضى عن مشورة وبيعة أخرى قبل هذه ، يعني بيعة الجماعة . 
قال  مسعود     : أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا في  عبيد الله  ولم نجد من أبيه مكافأة ولا شكرا فيما صنعنا معه ؟ قال  الحارث     : إنه لا يعاديك أحد على الوفاء على بيعتك حتى تبلغه مأمنه ، أفتخرجه من بيتك بعدما دخله عليك ؟ 
وأمره  مسعود  فدخل بيت أخيه  عبد الغافر بن عمرو  ، ثم ركب  مسعود  من ليلته ومعه  الحارث  وجماعة من قومه فطافوا في الأزد فقالوا : إن  ابن زياد  فقد وإنا لا نأمن أن   [ ص: 230 ] تلحظوا به . فأصبحوا في السلاح . وفقد الناس  ابن زياد  فقالوا : ما هو إلا في الأرض . 
وقيل إن  الحارث  لم يكلم  مسعودا  بل أمر  عبيد الله  فحمل معه مائة ألف وأتى بها أم بسطام  امرأة  مسعود  ، ( وهي بنت عمرو بن الحارث ، ومعه  عبيد الله  فاستأذن عليها فأذنت له فقال لها : قد أتيتك بأمر تسودين به نساء العرب وتتعجلين به الغنى . 
وأخبرها الخبر ، وأمرها أن تدخل  ابن زياد  البيت وتلبسه ثوبا من ثياب  مسعود  ، ففعلت ، ولما جاء  مسعود  أخذ برأسها يضربها ، فخرج  عبيد الله  والحارث  عليه وقال له : قد أجارتني وهذا ثوبك علي وطعامك في بطني . 
وشهد  الحارث  وتلطفوا به حتى رضي ، فلم يزل  ابن زياد  في بيته حتى قتل  مسعود  فسار إلى الشام    . 
ولما فقد  ابن زياد  بقي أهل البصرة  في غير أمير فاختلفوا فيمن يؤمرون عليهم ثم تراضوا  بقيس بن الهيثم السلمي  وبالنعمان بن سفيان الراسبي الحرمي  ليختارا من يرضيان لهم ، وكان رأي  قيس  في بني أمية  ، ورأي  النعمان  في بني هاشم  ، فقال  النعمان     : ما أرى أحدا أحق بهذا الأمر من فلان ، لرجل من بني أمية  ، وقيل : بل ذكر له  عبد الله بن الأسود الزهري  ، وكان هوى  قيس  فيه ، وإنما قال  النعمان  ذلك خديعة ومكرا  بقيس  ، فقال  قيس     : قد قلدتك أمري ورضيت من رضيت ، ثم خرجا إلى الناس ، فقال  قيس     : قد رضيت من رضي  النعمان     . 
				
						
						
