فصل في حكمه - صلى الله عليه وسلم - فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة  
قد تقدم حديث  محمود بن لبيد  رضي الله عنه : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا ، فقام مغضبا ، ثم قال : " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ !  ) ، " وإسناده على شرط  مسلم  ، فإن ابن وهب  قد رواه عن  [ ص: 221 ] مخرمة بن بكير بن الأشج  ، عن أبيه قال : سمعت  محمود بن لبيد  فذكره ، ومخرمة  ثقة بلا شك ، وقد احتج  مسلم  في " صحيحه " بحديثه عن أبيه . 
والذين أعلوه قالوا : لم يسمع منه ، وإنما هو كتاب . قال أبو طالب   : سألت  أحمد بن حنبل  عن مخرمة بن بكير  ؟ فقال : هو ثقة ، ولم يسمع من أبيه ، إنما هو كتاب مخرمة  ، فنظر فيه ، كل شيء يقول : بلغني عن  سليمان بن يسار  ، فهو من كتاب مخرمة   . 
وقال  أبو بكر بن أبي خيثمة   : سمعت  يحيى بن معين  يقول : مخرمة بن بكير  وقع إليه كتاب أبيه ، ولم يسمعه . وقال في رواية  عباس الدوري   : هو ضعيف ، وحديثه عن أبيه كتاب ، ولم يسمعه منه ، وقال أبو داود   : لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا ، حديث الوتر ، وقال  سعيد بن أبي مريم  عن خاله موسى بن سلمة   : أتيت مخرمة  فقلت : حدثك أبوك ؟ قال : لم أدرك أبي ، ولكن هذه كتبه . 
والجواب عن هذا من وجهين . 
أحدهما : أن كتاب أبيه كان عنده محفوظا مضبوطا ، فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به ، أو رآه في كتابه ، بل الأخذ عن النسخة أحوط إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها ، وهذه طريقة الصحابة والسلف ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث كتبه إلى الملوك  ، وتقوم عليهم بها الحجة ، وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام ، فعملوا بها واحتجوا بها ، ودفع  الصديق  كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة إلى  أنس بن مالك  ، فحمله وعملت به الأمة ، وكذلك كتابه إلى عمرو بن حزم  في الصدقات الذي كان عند آل عمرو  ، ولم يزل السلف والخلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض ، ويقول المكتوب إليه : كتب إلي فلان أن فلانا أخبره ، ولو بطل الاحتجاج بالكتب  لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير ، فإن الاعتماد إنما هو على النسخ لا على الحفظ ، والحفظ خوان ، والنسخة لا تخون ، ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدمة أن أحدا من أهل العلم رد الاحتجاج بالكتاب ، وقال : لم يشافهني به الكاتب ، فلا أقبله ، بل كلهم  [ ص: 222 ] مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كتابه . 
الجواب الثاني : أن قول من قال : لم يسمع من أبيه معارض بقول من قال سمع منه ، ومعه زيادة علم وإثبات ، قال  عبد الرحمن بن أبي حاتم   : سئل أبي عن مخرمة بن بكير  ؟ فقال : صالح الحديث . قال : وقال  ابن أبي أويس   : وجدت في ظهر كتاب مالك   : سألت مخرمة  عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه ؟ فحلف لي : ورب هذه البنية - يعني المسجد - سمعت من أبي . وقال  علي بن المديني   : سمعت  معن بن عيسى  يقول : مخرمة  سمع من أبيه ، وعرض عليه ربيعة  أشياء من رأي  سليمان بن يسار  ، وقال علي   : ولا أظن مخرمة  سمع من أبيه كتاب سليمان  ، لعله سمع منه الشيء اليسير ، ولم أجد أحدا بالمدينة  يخبرني عن مخرمة بن بكير  أنه كان يقول في شيء من حديثه : سمعت أبي ، ومخرمة  ثقة . انتهى . 
ويكفي أن مالكا  أخذ كتابه ، فنظر فيه واحتج به في " موطئه " ، وكان يقول : حدثني مخرمة  ، وكان رجلا صالحا . وقال أبو حاتم   : سألت  إسماعيل بن أبي أويس  ، قلت : هذا الذي يقول  مالك بن أنس   : حدثني الثقة ، من هو ؟ قال : مخرمة بن بكير   . وقيل  لأحمد بن صالح المصري   : كان مخرمة  من ثقات الرجال ؟ قال : نعم ، وقال  ابن عدي  عن ابن وهب   ومعن بن عيسى  عن مخرمة   : أحاديث حسان مستقيمة ، وأرجو أنه لا بأس به . 
وفي " صحيح  مسلم   " ( قول  ابن عمر  للمطلق ثلاثا : " حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك ، وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك  ) ، وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به ، وتفسير الصحابي حجة . وقال الحاكم   : هو عندنا مرفوع . 
 [ ص: 223 ] ومن تأمل القرآن حق التأمل ، تبين له ذلك ، وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول هو الطلاق الذي يملك به الرجعة  ، ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة البتة ، قال تعالى : ( الطلاق مرتان   ) ، ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وحمده ثلاثا وثلاثين ، وكبره أربعا وثلاثين  ) ، ونظائره فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال يتلو بعضه بعضا ، فلو قال : سبحان الله ثلاثا وثلاثين ، والحمد لله ثلاثا وثلاثين ، والله أكبر أربعا وثلاثين بهذا اللفظ - لكان ثلاث مرات فقط . وأصرح من هذا قوله سبحانه : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله   ) [ النور : 6 ] ، فلو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين ، كانت مرة ، وكذلك قوله : ( ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين   ) [ النور : 8 ] ، فلو قالت أشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الكاذبين ، كانت واحدة ، وأصرح من ذلك قوله تعالى : ( سنعذبهم مرتين   ) [ التوبة : 101 ] ، فهذا مرة بعد مرة ، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى :  [ ص: 224 ]  ( نؤتها أجرها مرتين   ) [ الأحزاب : 31 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين  ) ، فإن المرتين هنا هما الضعفان ، وهما المثلان ، وهما مثلان في القدر ، كقوله تعالى : ( يضاعف لها العذاب ضعفين   ) [ الأحزاب : 30 ] ، وقوله : ( فآتت أكلها ضعفين   ) [ البقرة : 265 ] ، أي : ضعفي ما يعذب به غيرها ، وضعفي ما كانت تؤتي ، ومن هذا قول أنس   : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين ، أي : شقتين وفرقتين ، كما قال في اللفظ الآخر : ( انشق القمر فلقتين  ) 
وهذا أمر معلوم قطعا أنه إنما انشق القمر مرة واحدة ، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان ، وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة . 
فالثاني : يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد ، والأول لا يتصور فيه ذلك . 
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة أنه قال تعالى : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء   ) إلى أن قال : ( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا   ) [ البقرة : 228 ] ، فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول ، فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا ، وكذلك قوله تعالى : ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن   ) ، إلى قوله : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف   ) ، فهذا هو الطلاق المشروع  ، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن ، وذكر أحكامها ، فذكر  [ ص: 225 ] الطلاق قبل الدخول ، وأنه لا عدة فيه  ، وذكر الطلقة الثالثة ، وأنها تحرم الزوجة على المطلق ( حتى تنكح زوجا غيره   ) ، وذكر طلاق الفداء  الذي هو الخلع ، وسماه فدية ، ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم ، وذكر الطلاق الرجعي  الذي المطلق أحق فيه بالرجعة ، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة . 
وبهذا احتج أحمد   والشافعي  وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة ، وأنه إذا قال لها : أنت طالق طلقة بائنة كانت رجعية ، ويلغو وصفها بالبينونة ، وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض . وأما  أبو حنيفة  ، فقال : تبين بذلك لأن الرجعة حق له ، وقد أسقطها ، والجمهور يقولون : وإن كانت الرجعة حقا له لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه ، فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها ، وبذلها العوض ، أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين ، وهو جواز الخلع بغير عوض   . 
وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض ، فخلاف النص والقياس . 
قالوا : وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة ، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد  ، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ، ويراجعها ، وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل ، ففيه إضرار بالمرأة ، فنسخ سبحانه ذلك بثلاث ، وقصر الزوج عليها ، وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها ، فإذا استوفى العدد الذي ملكه ، حرمت عليه ، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة ، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث ، فهذا شرعه وحكمته ، وحدوده التي حدها لعباده ، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلاف شرعه وحكمته ، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة ، بل إنما ملك واحدة ، فالزائد عليها غير مأذون له فيه . 
قالوا : وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة ، إذ هو خلاف ما شرعه ،  [ ص: 226 ] لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة ، إذ هو خلاف شرعه . 
ونكتة المسألة أن الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين   : 
أحدهما : طلاق غير المدخول بها . 
والثاني : الطلقة الثالثة ، وما عداه من الطلاق ، فقد جعل للزوج فيه الرجعة ، هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره ، وهذا قول الجمهور ، منهم : الإمام أحمد  ،  والشافعي  ، وأهل الظاهر ، قالوا : لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع . 
ولأصحاب مالك  ثلاثة أقوال فيما إذا قال : أنت طالق طلقة لا رجعة فيها : أحدها : أنها ثلاث ، قاله  ابن الماجشون  ؛ لأنه قطع حقه من الرجعة ، وهي لا تنقطع إلا بثلاث ، فجاءت الثلاث ضرورة . 
الثاني : أنها واحدة بائنة ، كما قال ، هذا قول ابن القاسم  ؛ لأنه يملك إبانتها بطلقة بعوض ، فملكها بدونه ، والخلع عنده طلاق . 
الثالث : أنها واحدة رجعية ، وهذا قول ابن وهب  ، وهو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والقياس ، وعليه الأكثرون . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					