الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم : لا يزال النكاح المتيقن إلا بيقين مثله من كتاب ، أو سنة ، أو إجماع متيقن . فإذا أوجدتمونا واحدا من هذه الثلاثة ، رفعنا حكم النكاح به ، لا سبيل إلى رفعه بغير ذلك . قالوا : وكيف والأدلة المتكاثرة تدل على عدم وقوعه ، فإن هذا الطلاق لم يشرعه الله تعالى البتة ، ولا أذن فيه ، فليس في شرعه ، فكيف يقال بنفوذه وصحته ؟ .

قالوا : وإنما يقع من الطلاق المحرم ما ملكه الله تعالى للمطلق ، ولهذا لا يقع به الرابعة ؛ لأنه لم يملكها إياه ، ومن المعلوم أنه لم يملكه الطلاق المحرم ، ولا أذن له فيه ، فلا يصح ، ولا يقع .

قالوا : ولو وكل وكيلا أن يطلق امرأته طلاقا جائزا ، فطلق طلاقا [ ص: 204 ] محرما لم يقع ، لأنه غير مأذون له فيه ، فكيف كان إذن المخلوق معتبرا في صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع ، ومن المعلوم أن المكلف إنما يتصرف بالإذن ، فما لم يأذن به الله ورسوله لا يكون محلا للتصرف البتة .

قالوا : وأيضا فالشارع قد حجر على الزوج أن يطلق في حال الحيض أو بعد الوطء في الطهر ، فلو صح طلاقه لم يكن لحجر الشارع معنى ، وكان حجر القاضي على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يبطل التصرف بحجره .

قالوا : وبهذا أبطلنا البيع وقت النداء يوم الجمعة ؛ لأنه بيع حجر الشارع على بائعه هذا الوقت ، فلا يجوز تنفيذه وتصحيحه .

قالوا : ولأنه طلاق محرم منهي عنه ، فالنهي يقتضي فساد المنهي عنه ، فلو صححناه لكان لا فرق بين المنهي عنه والمأذون فيه من جهة الصحة والفساد .

قالوا : وأيضا فالشارع إنما نهى عنه وحرمه ، لأنه يبغضه ، ولا يحب وقوعه ، بل وقوعه مكروه إليه ، فحرمه لئلا يقع ما يبغضه ويكرهه ، وفي تصحيحه وتنفيذه ضد هذا المقصود .

قالوا : وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي ، فما الفرق بينه وبين الطلاق ، وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح ، وصححتم ما حرمه ونهى عنه من الطلاق ، والنهي يقتضي البطلان في الموضعين ؟

قالوا : ويكفينا من هذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العام الذي لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغائه ، كما في " الصحيح " عنه ، من حديث عائشة - رضي الله عنها - : ( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ) ، وفي رواية ( من [ ص: 205 ] عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) . وهذا صريح أن هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - مردود باطل ، فكيف يقال : إنه صحيح لازم نافذ ؟ فأين هذا من الحكم برده ؟

قالوا : وأيضا فإنه طلاق لم يشرعه الله أبدا ، وكان مردودا باطلا كطلاق الأجنبية ، ولا ينفعكم الفرق بأن الأجنبية ليست محلا للطلاق بخلاف الزوجة ، فإن هذه الزوجة ليست محلا للطلاق المحرم ، ولا هو مما ملكه الشارع إياه .

قالوا : وأيضا فإن الله سبحانه إنما أمر بالتسريح بإحسان ، ولا أشر من التسريح الذي حرمه الله ورسوله ، وموجب عقد النكاح أحد أمرين : إما إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان ، والتسريح المحرم أمر ثالث غيرهما ، فلا عبرة به البتة .

قالوا : وقد قال الله تعالى : ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) ، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله مراده من كلامه ، أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاق في زمن الطهر الذي لم يجامع فيه ، أو بعد استبانة الحمل ، وما عداهما فليس بطلاق للعدة في حق المدخول بها ، فلا يكون طلاقا ، فكيف تحرم المرأة به ؟

قالوا : وقد قال تعالى : ( الطلاق مرتان ) [ البقرة : 269 ] ، ومعلوم أنه إنما أراد الطلاق المأذون فيه ، وهو الطلاق للعدة ، فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق ، فإنه حصر الطلاق المشروع المأذون فيه الذي يملك به الرجعة في مرتين ، فلا يكون ما عداه طلاقا . قالوا : ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يقولون : إنهم لا طاقة لهم بالفتوى في الطلاق المحرم ، كما روى ابن وهب ، عن جرير بن حازم ، عن الأعمش أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: [ ص: 206 ] ( من طلق كما أمره الله ، فقد بين الله له ، ومن خالف ، فإنا لا نطيق خلافه ، ولو وقع طلاق المخالف لم يكن الإفتاء به غير مطاق لهم ، ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعان واقعين نافذين ) .

( وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضا : من أتى الأمر على وجهه فقد بين الله له ، وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون ) .

وقال بعض الصحابة وقد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة : ( من طلق كما أمر ، فقد بين له ، ومن لبس تركناه وتلبيسه ) .

قالوا : ويكفي من ذلك كله ( ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا ؟ فقال : طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض ، قال عبد الله : فردها علي ولم يرها شيئا ، وقال : إذا طهرت ، فليطلق أو ليمسك ، قال ابن عمر : وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن ) في قبل عدتهن .

قالوا : وهذا إسناد في غاية الصحة ، فإن أبا الزبير غير مدفوع عن الحفظ والثقة ، وإنما يخشى من تدليسه ، فإذا قال : سمعت أو حدثني ، زال محذور التدليس ، وزالت العلة المتوهمة ، وأكثر أهل الحديث يحتجون به إذا قال : " عن " ولم يصرح بالسماع ، ومسلم يصحح ذلك من حديثه ، فأما إذا صرح بالسماع ، فقد زال الإشكال ، وصح الحديث ، وقامت الحجة .

قالوا : ولا نعلم في خبر أبي الزبير هذا ما يوجب رده ، وإنما رده من [ ص: 207 ] رده استبعادا واعتقادا أنه خلاف الأحاديث الصحيحة ، ونحن نحكي كلام من رده ، ونبين أنه ليس فيه ما يوجب الرد .

قال أبو داود : والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير .

وقال الشافعي : ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير ، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه .

وقال الخطابي : حديث يونس بن جبير أثبت من هذا ، يعني قوله : ( مره فليراجعها " ، وقوله : " أرأيت إن عجز واستحمق " ؟ قال: فمه ) .

قال ابن عبد البر : وهذا لم ينقله عنه أحد غير أبي الزبير ، وقد رواه عنه جماعة أجلة ، فلم يقل ذلك أحد منهم ، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله ، فكيف بخلاف من هو أثبت منه .

وقال بعض أهل الحديث : لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا .

فهذا جملة ما رد به خبر أبي الزبير ، وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية