حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الرجل لامرأته : الحقي بأهلك  
ثبت في " صحيح البخاري " : ( أن ابنة الجون  لما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها ، قالت : أعوذ بالله منك ، فقال : عذت بعظيم ، الحقي بأهلك  ) . 
وثبت في " الصحيحين " : أن  كعب بن مالك  رضي الله عنه لما أتاه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن يعتزل امرأته قال لها : ( الحقي بأهلك ) 
 [ ص: 289 ] فاختلف الناس في هذا ، فقالت طائفة : ليس هذا بطلاق ، ولا يقع به الطلاق ، نواه أو لم ينوه ، وهذا قول أهل الظاهر . قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عقد على ابنة الجون  ، وإنما أرسل إليها ليخطبها . 
قالوا : ويدل على ذلك ما في " صحيح  البخاري   " : من حديث حمزة بن أبي أسيد  ، عن أبيه ، أنه ( كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أتي بالجونية ، فأنزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل  في نخل ، ومعها دابتها ، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هبي لي نفسك " فقالت : وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ، فأهوى ليضع يده عليها لتسكن ، فقالت : أعوذ بالله منك ، فقال : " قد عذت بمعاذ ، ثم خرج فقال : " يا أبا أسيد  اكسها رازقيين ، وألحقها بأهلها  ) 
وفي " صحيح  مسلم   " : عن  سهل بن سعد  قال : ( ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب ، فأمر أبا أسيد  أن يرسل إليها ، فأرسل إليها فقدمت ، فنزلت في أجم بني ساعدة  ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءها دخل عليها ، فإذا امرأة منكسة رأسها ، فلما كلمها قالت : أعوذ بالله منك ، قال : " قد أعذتك مني " فقالوا لها : أتدرين من هذا ؟ قالت : لا ، قالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاءك ليخطبك ، قالت : أنا كنت أشقى من ذلك  ) 
قالوا : وهذه كلها أخبار عن قصة واحدة في امرأة واحدة في مقام واحد ، وهي صريحة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن تزوجها بعد ، وإنما دخل عليها ليخطبها . 
وقال الجمهور - منهم الأئمة الأربعة وغيرهم - بل هذا من ألفاظ الطلاق إذا نوى به الطلاق ، وقد ثبت في " صحيح  البخاري   " : أن أبانا إسماعيل بن إبراهيم   [ ص: 290 ] طلق به امرأته لما قال لها إبراهيم   : ( مريه فليغير عتبة بابه " ، فقال لها : أنت العتبة ، وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك  ) وحديث  عائشة  كالصريح ، في أنه صلى الله عليه وسلم كان عقد عليها ، فإنها قالت لما أدخلت عليه ، فهذا دخول الزوج بأهله ، ويؤكده قولها : ودنا منها . وأما حديث أبي أسيد  ، فغاية ما فيه قوله : ( هبي لي نفسك ) وهذا لا يدل على أنه لم يتقدم نكاحه لها ، وجاز أن يكون هذا استدعاء منه صلى الله عليه وسلم للدخول لا للعقد . وأما حديث  سهل بن سعد  ، فهو أصرحها ، في أنه لم يكن وجد عقد ، فإن فيه أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء إليها ، قالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك ، والظاهر أنها هي الجونية ؛ لأن سهلا  قال في حديثه : فأمر أبا أسيد  أن يرسل إليها ، فأرسل إليها . 
فالقصة واحدة ، دارت على  عائشة  رضي الله عنها وأبي أسيد  وسهل  ، وكل منهم رواها ، وألفاظهم فيها متقاربة ، ويبقى التعارض بين قوله : جاء ليخطبك ، وبين قوله : فلما دخل عليها ودنا منها ، فإما أن يكون أحد اللفظين وهما ، أو الدخول ليس دخول الرجل على امرأته ، بل الدخول العام وهذا محتمل . 
وحديث  ابن عباس  رضي الله عنهما في قصة إسماعيل  صريح ، ولم يزل هذا اللفظ من الألفاظ التي يطلق بها في الجاهلية والإسلام ، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم ، بل أقرهم عليه ، وقد أوقع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق ، وهم القدوة : بأنت حرام ، وأمرك بيدك ، واختاري . ووهبتك لأهلك ، وأنت خلية ، وقد خلوت مني ، وأنت برية ، وقد أبرأتك ، وأنت مبرأة ، وحبلك على غاربك ، وأنت الحرج . 
فقال علي   وابن عمر   : ( الخلية ثلاث ) وقال عمر   : ( واحدة وهو أحق بها  ) وفرق معاوية  بين رجل وامرأته قال لها : إن خرجت فأنت خلية ، وقال علي   وابن عمر  رضي الله  [ ص: 291 ] عنهما ، وزيد  في البرية : إنها ثلاث . وقال عمر  رضي الله عنه : ( هي واحدة وهو أحق بها ) وقال علي  في الحرج : هي ثلاث ، وقال عمر   : واحدة ، وقد تقدم ذكر أقوالهم في أمرك بيدك وأنت حرام . 
والله سبحانه ذكر الطلاق ، ولم يعين له لفظا ، فعلم أنه رد الناس إلى ما يتعارفونه طلاقا ، فأي لفظ جرى عرفهم به ، وقع به الطلاق مع النية . 
والألفاظ لا تراد لعينها ، بل للدلالة على مقاصد لافظها ، فإذا تكلم بلفظ دال على معنى ، وقصد به ذلك المعنى ، ترتب عليه حكمه ، ولهذا يقع الطلاق من العجمي والتركي والهندي  بألسنتهم ، بل لو طلق أحدهم بصريح الطلاق بالعربية ، ولم يفهم معناه لم يقع به شيء قطعا ، فإنه تكلم بما لا يفهم معناه ولا قصده ، وقد دل حديث  كعب بن مالك  على أن الطلاق لا يقع بهذا اللفظ وأمثاله إلا بالنية . 
والصواب أن ذلك جار في سائر الألفاظ صريحها وكنايتها ، ولا فرق بين ألفاظ العتق والطلاق ، فلو قال : غلامي غلام حر لا يأتي الفواحش ، أو أمتي أمة حرة لا تبغي الفجور  ، ولم يخطر بباله العتق ولا نواه ، لم يعتق بذلك قطعا ، وكذلك لو كانت معه امرأته في طريق فافترقا ، فقيل له أين امرأتك ؟ فقال : فارقتها  ، أو سرح شعرها وقال : سرحتها ولم يرد طلاقا ، لم تطلق . كذلك إذا ضربها الطلق وقال لغيره إخبارا عنها بذلك : إنها طالق  لم تطلق بذلك ، وكذلك إذا كانت المرأة في وثاق فأطلقت منه ، فقال لها : أنت طالق ، وأراد من الوثاق   . 
هذا كله مذهب مالك  وأحمد  في بعض هذه الصور ، وبعضها نظير ما نص عليه ، ولا يقع الطلاق به حتى ينويه ويأتي بلفظ دال عليه ، فلو انفرد أحد الأمرين عن الآخر ، لم يقع الطلاق ، ولا العتاق ، وتقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية وإن كان تقسيما صحيحا في أصل الوضع ، لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة ، فليس حكما ثابتا للفظ لذاته ، فرب لفظ صريح عند قوم كناية عند آخرين ، أو صريح في زمان أو مكان كناية في غير ذلك الزمان والمكان ، والواقع شاهد بذلك ، فهذا لفظ السراح لا يكاد أحد يستعمله في الطلاق لا صريحا ولا  [ ص: 292 ] كناية ، فلا يسوغ أن يقال إن من تكلم به ، لزمه طلاق امرأته نواه أو لم ينوه ، ويدعي أنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال ، فإن هذه دعوى باطلة شرعا واستعمالا ، أما الاستعمال فلا يكاد أحد يطلق به البتة ، وأما الشرع فقد استعمله في غير الطلاق ، كقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا   ) [ الأحزاب : 49 ] فهذا السراح غير الطلاق قطعا ، وكذلك الفراق استعمله الشرع في غير الطلاق ، كقوله تعالى : ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن   ) إلى قوله : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف   ) [ الطلاق : 2 ] فالإمساك هنا : الرجعة ، والمفارقة : ترك الرجعة لا إنشاء طلقة ثانية ، هذا مما لا خلاف فيه البتة ، فلا يجوز أن يقال : إن من تكلم به طلقت زوجته ، فهم معناه أو لم يفهم ، وكلاهما في البطلان سواء ، وبالله التوفيق . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					