فصل
والحكم الثالث : ، وهو ما تأخذه الزانية في مقابلة الزنى بها ، فحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خبيث على أي وجه كان ، حرة كانت ، أو أمة ، ولا سيما فإن البغاء إنما كان على عهدهم في الإماء ، دون الحرائر ، ولهذا قالت مهر البغي هند : وقت البيعة : ( أو تزني الحرة ؟! ) ولا نزاع بين الفقهاء في أن أنه لا مهر لها واختلف في مسألتين . الحرة البالغة العاقلة إذا مكنت رجلا من نفسها فزنى بها
إحداهما : الحرة المكرهة .
والثانية : الأمة المطاوعة ، فأما ففيها أربعة أقوال وهي روايات منصوصات عن الحرة المكرهة على الزنى أحمد .
أحدها : أن لها المهر بكرا كانت أو ثيبا ، سواء وطئت في قبلها أو دبرها .
والثاني : أنها إن كانت ثيبا ، فلا مهر لها ، وإن كانت بكرا ، فلها المهر ، وهل يجب معه أرش البكارة ؟ على روايتين منصوصتين ، وهذا القول اختيار أبي بكر .
[ ص: 687 ] والثالث : أنها إن كانت ذات محرم ، فلا مهر لها ، وإن كانت أجنبية ، فلها المهر .
والرابع : أن من تحرم ابنتها كالأم والبنت والأخت ، فلا مهر لها ، ومن تحل ابنتها كالعمة والخالة ، فلها المهر .
وقال - رحمه الله - : لا مهر للمكرهة على الزنى بحال بكرا كانت أو ثيبا . أبو حنيفة
فمن أوجب المهر ، قال : إن استيفاء هذه المنفعة جعل مقوما في الشرع بالمهر ، وإنما لم يجب للمختارة ؛ لأنها باذلة للمنفعة التي عوضها لها ، فلم يجب لها شيء ، كما لو أذنت في إتلاف عضو من أعضائها لمن أتلفه .
ومن لم يوجبه قال : الشارع إنما جعل هذه المنفعة متقومة بالمهر في عقد أو شبهة عقد ، ولم يقومها بالمهر في الزنى البتة ، وقياس السفاح على النكاح من أفسد القياس . قالوا : وإنما جعل الشارع في مقابلة هذا الاستمتاع الحد والعقوبة ، فلا يجمع بينه وبين ضمان المهر . قالوا : والوجوب إنما يتلقى من الشارع من نص خطابه أو عمومه ، أو فحواه ، أو تنبيهه ، أو معنى نصه ، وليس شيء من ذلك ثابتا متحققا عنه .
وغاية ما يدعى قياس السفاح على النكاح ، ويا بعد ما بينهما . قالوا : والمهر إنما هو من خصائص النكاح لفظا ومعنى ، ولهذا إنما يضاف إليه فيقال : مهر النكاح ، ولا يضاف إلى الزنى ، فلا يقال : مهر الزنا ، وإنما أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - المهر وأراد به العقد ، كما قال : ( ) . وكما قال : ( إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) . ونظائره كثيرة . ورجل باع حرا فأكل ثمنه
[ ص: 688 ] والأولون يقولون : الأصل في هذه المنفعة ، أن تقوم بالمهر ، وإنما أسقطه الشارع في حق البغي ، وهي التي تزني باختيارها ، وأما المكرهة على الزنى فليست بغيا ، فلا يجوز إسقاط بدل منفعتها التي أكرهت على استيفائها ، كما لو أكره الحر على استيفاء منافعه ، فإنه يلزمه عوضها ، وعوض هذه المنفعة شرعا هو المهر ، فهذا مأخذ القولين .
ومن فرق بين البكر والثيب ، رأى أن الواطئ لم يذهب على الثيب شيئا ، وحسبه العقوبة التي ترتبت على فعله ، وهذه المعصية لا يقابلها شرعا مال يلزم من أقدم عليها ، بخلاف البكر فإنه أزال بكارتها ، فلا بد من ضمان ما أزاله فكانت هذه الجناية مضمونة عليه في الجملة ، فضمن ما أتلفه من جزء منفعة ، وكانت المنفعة تابعة للجزء في الضمان ، كما كانت تابعة له في عدمه من البكر المطاوعة .
ومن فرق بين ذوات المحارم وغيرهن ، رأى أن تحريمهن لما كان تحريما مستقرا ، وأنهن غير محل الوطء شرعا ، كان استيفاء هذه المنفعة منهن بمنزلة التلوط ، فلا يوجب مهرا ، وهذا قول ، وهذا بخلاف تحريم المصاهرة ، فإنه عارض يمكن زواله . الشعبي
قال صاحب ( المغني ) : وهكذا ينبغي أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرضاع ؛ لأنه طارئ أيضا . ومن فرق في ذوات المحارم ، بين من تحرم ابنتها ، وبين من لا تحرم ، فكأنه رأى أن من لا تحرم ابنتها تحريمها أخف من تحريم الأخرى فأشبه العارض .
فإن قيل : فما حكم المكرهة على الوطء في دبرها ، أو الأمة المطاوعة على ذلك ؟ قيل : هو أولى بعدم الوجوب ، فهذا كاللواط لا يجب فيه المهر اتفاقا .
[ ص: 689 ] وقد اختلف في هذه المسألة الشيخان ، ، أبو البركات ابن تيمية ، فقال وأبو محمد بن قدامة أبو البركات في ( محرره ) : ويجب ، وقال مهر المثل للموطوءة بشبهة ، والمكرهة على الزنى في قبل أو دبر أبو محمد في ( المغني ) : لا يجب المهر بالوطء في الدبر ، ولا اللواط ؛ لأن الشرع لم يرد ببدله ، ولا هو إتلاف لشيء ، فأشبه القبلة والوطء دون الفرج ، وهذا القول هو الصواب قطعا ، فإن هذا الفعل لم يجعل له الشارع قيمة أصلا ، ولا قدر له مهرا بوجه من الوجوه ، وقياسه على وطء الفرج من أفسد القياس ، ولازم من قاله إيجاب المهر لمن فعلت به اللوطية من الذكور ، وهذا لم يقل به أحد البتة .