فصل في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد
وقد أشار الله - سبحانه وتعالى - إلى أمهاتها ، وأصولها في سورة (آل عمران ) حيث افتتح القصة بقوله : ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) [ آل عمران : 121 ] ، إلى تمام ستين آية .
فمنها : تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع ، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك ، كما قال تعالى : ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم ) ، [ آل عمران : 152 ] .
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول ، وتنازعهم ، وفشلهم ، كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة ، وتحرزا من أسباب الخذلان .
ومنها : أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى ، لكن تكون لهم العاقبة ، فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المؤمنون وغيرهم ، ولم يتميز الصادق من غيره ، ولو انتصر عليهم دائما لم [ ص: 197 ] يحصل المقصود من البعثة والرسالة ، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق ، وما جاءوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة .
ومنها : أن هذا من أعلام الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان : ( هل قاتلتموه ؟ قال : نعم ، قال : كيف الحرب بينكم وبينه ؟ قال : سجال يدال علينا المرة ، وندال عليه الأخرى ، قال : كذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة )
ومنها : أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يومبدر ، وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا ، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق ، فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة ، وتكلموا بما كانوا يكتمونه ، وظهرت مخبآتهم ، وعاد تلويحهم تصريحا ، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا ، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم ، وهم معهم لا يفارقونهم ، فاستعدوا لهم ، وتحرزوا منهم . قال الله تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) [ آل عمران : 179 ] .
أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أحد ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء ، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة . وقوله : ( ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب سوى الرسل ، فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه كما قال : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) [ الجن : 27 ] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه [ ص: 198 ] رسله فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظم الأجر والكرامة .
ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء ، وفيما يحبون وما يكرهون ، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم ، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقا ، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية .
ومنها : أنه سبحانه لو نصرهم دائما ، وأظفرهم بعدوهم في كل موطن ، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدا لطغت نفوسهم ، وشمخت وارتفعت ، فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق ، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء ، والشدة والرخاء ، والقبض والبسط ، فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته ، إنه بهم خبير بصير .
ومنها : أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا ، فاستوجبوا منه العز والنصر ، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار ، قال تعالى : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) [ آل عمران : 123 ] . وقال : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ) [ التوبة : 25 ] فهو - سبحانه - إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولا ، ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره .
ومنها : أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة ، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه ، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها .
ومنها : أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة ، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة ، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه ، فيكون ذلك البلاء والمحنة [ ص: 199 ] بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ، ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه ، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه .
ومنها : أن عنده من أعلى مراتب أوليائه ، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده ، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة ، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في محبته ومرضاته ، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم ، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو . الشهادة
ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ، ومبالغتهم في أذى أوليائه ، ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم ، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم ، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) [ آل عمران : 139 ، 140 ] ، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وهممهم ، وبين حسن التسلية ، وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال : ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) [ آل عمران : 140 ] ، فقد استويتم في القرح والألم ، وتباينتم في الرجاء والثواب ، كما قال : ( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) [ النساء : 104 ] ، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم ، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان ، وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي .