( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد    ) . 
قوله تعالى ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد    ) .   [ ص: 183 ] اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم  ، وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بين الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم ، فقال : ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن    ) وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : 
الطريق الأول : أن هذا إعراض عن المحاجة ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مرارا وأطوارا ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وأيضا قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه ، فأولها أنه تعالى ذكر الحجة بقوله ( الحي القيوم    ) [ البقرة : 255 ] على فساد قول النصارى  في إلهية عيسى  عليه السلام  وبقوله ( نزل عليك الكتاب بالحق    ) [ آل عمران : 3 ] على صحة النبوة ، وذكر شبه القوم ، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم ، ثم ذكر لهم معجزة أخرى ، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر  على ما بيناه في تفسير قوله تعالى : ( قد كان لكم آية في فئتين التقتا    ) [ آل عمران : 13 ] ثم بين صحة القول بالتوحيد ، ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله ( شهد الله أنه لا إله إلا هو    ) [ آل عمران : 18 ] ثم بين تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود  والنصارى  عن الحق ، واختلافهم في الدين ، إنما كان لأجل البغي والحسد ، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين ، فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل  ، فبعد هذا قال : ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن    ) يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل ، وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد ، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين ، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم ، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام ، فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالا بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد ، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه . 
الطريق الثاني : وهو أن نقول : إن قوله ( أسلمت وجهي لله    ) محاجة ، وإظهار للدليل ، وبيانه من وجوه : 
الوجه الأول : أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع ، وكونه مستحقا للعبادة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم : هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الإثبات ، فإن اليهود  يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى  يدعون إلهية عيسى   ، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان  فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طاعة الله تعالى وعبوديته ، وهذا القدر متفق عليه ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا    ) [ آل عمران : 64 ] . 
والوجه الثاني : في كيفية الاستدلال : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني  ، وهو أن اليهود  والنصارى  وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم  صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه ، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام ، فأمر الله تعالى محمدا  صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال : ( ثم أوحينا إليك أن    )   [ ص: 184 ]   ( اتبع ملة إبراهيم حنيفا    ) [ النحل : 123 ] ثم إنه تعالى أمر محمدا  صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم  صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض    ) [ الأنعام : 79 ] فقول محمد  صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت وجهي    ) كقول إبراهيم  عليه السلام ( وجهت وجهي    ) [ الأنعام : 79 ] أي أعرضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة وأخلصت له ، فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد  في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم  ، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة ، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات ، وداخلا تحت قوله ( وجادلهم بالتي هي أحسن    ) [ النحل : 125 ]   . 
والوجه الثالث : في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع ، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ، ثم قال : ( فإن حاجوك    ) يعني فإن نازعوك في قولك ( إن الدين عند الله الإسلام    ) فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، وذلك لأن المقصود من الدين  إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية ، فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ، ولا أشرك به غيره ، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام ، وهذا الوجه يناسب الآية . 
الوجه الرابع في كيفية الاستدلال : ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم  عليه السلام ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا    ) [ مريم : 22 ] يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا ضارا ، ويكون أمري في يديه ، وحكمي في قبضة قدرته ، فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى  ما كان قادرا على هذه الأشياء ، امتنع في العقل أن أسلم له ، وأن أنقاد له ، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير ، والشر ، والنفع ، والضر ، والتدبير ، والتقدير . 
الوجه الخامس : يحتمل أيضا أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم  عليه الصلاة والسلام في قوله ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين    ) [ البقرة : 131 ] وهذا مروي عن  ابن عباس    . 
أما قوله ( أسلمت وجهي لله    ) ففيه وجوه : الأول : قال الفراء  أسلمت وجهي لله ، أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ، ولم يشاركه غيره . قال : ويعني بالوجه هاهنا العمل كقوله ( يريدون وجهه    ) [ الأنعام : 52 ] أي عبادته ، ويقال : هذا وجه الأمر أي خالص الأمر ، وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول : وجهت وجهي إليك ، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه : مر على وجهه . الثاني : أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله ، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه    . الثالث : أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله  فيصير كأنه موقوف على عبادته ، عادل عن كل ما سواه . 
وأما قوله ( ومن اتبعن    ) ففيه مسألتان : 
المسألة الأولى : حذف عاصم  وحمزة  والكسائي  الياء من " اتبعن " اجتزاء بالكسر واتباعا للمصحف ، وأثبته الآخرون على الأصل . 
 [ ص: 185 ] المسألة الثانية : " من " في محل الرفع عطفا على التاء في قوله ( أسلمت ) أي ومن اتبعني أسلم أيضا . 
فإن قيل : لم قال أسلمت ومن اتبعن ، ولم يقل : أسلمت أنا ومن اتبعن. 
قلنا : إن الكلام طال بقوله ( وجهي لله    ) فصار عوضا من تأكيد الضمير المتصل ، ولو قيل : أسلمت وزيد ، لم يحسن حتى يقال : أسلمت أنا وزيد ، ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر ، ومن جاء معي جاز وحسن . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					