[ ص: 29 ] القصة الثانية 
واقعة زكريا    - عليه السلام - 
( هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء    ) 
قوله تعالى : ( هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء    ) 
وفي الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أن قولنا : ثم ، وهناك ، وهنالك ، يستعمل في المكان ، ولفظة : عند ، وحين يستعملان في الزمان ، قال تعالى : ( فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين    ) [ الأعراف : 119 ] وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه ، وقال تعالى : ( وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا    ) [ الفرقان : 13 ] أي في ذلك المكان الضيق ، ثم قد يستعمل لفظة " هنالك " في الزمان أيضا ، قال تعالى : ( هنالك الولاية لله الحق    ) [ الكهف : 44 ] فهذا إشارة إلى الحال والزمان . 
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( هنالك دعا زكريا ربه    ) إن حملناه على المكان فهو جائز ، أي في ذلك المكان الذي كان قاعدا فيه عند مريم    - عليها السلام - ، وشاهد تلك الكرامات دعا ربه ، وإن حملناه على الزمان فهو أيضا جائز ، يعني في ذلك الوقت دعا ربه . 
المسألة الثانية : اعلم أن قوله : ( هنالك دعا    ) يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء ، وقد اختلفوا فيه ، والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا : هو أن زكريا    - عليه السلام - رأى عند مريم  من فاكهة الصيف في الشتاء ، ومن فاكهة الشتاء في الصيف  ، فلما رأى خوارق العادات عندها ، طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضا فيرزقه الولد من الزوجة الشيخة العاقر . 
والقول الثاني : وهو قول المعتزلة  الذين ينكرون كرامات الأولياء ، وإرهاصات الأنبياء  قالوا : إن زكريا    - عليه السلام - لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم    - عليها السلام - اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك . 
واعلم أن القول الأول أولى ، وذلك لأن حصول الزهد والعفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراق العادات  ، فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان على طلب ما يخرق العادة ، وأما رؤية ما يخرق العادة قد يطمعه في أن يطلب أيضا فعلا خارقا للعادة ، ومعلوم أن حدوث الولد من الشيخ الهرم والزوجة العاقر من خوارق العادات ، فكان حمل الكلام على هذا الوجه أولى . 
فإن قيل : إن قلتم إن زكريا    - عليه السلام - ما كان يعلم قدرة الله تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم    - عليها السلام - كان في هذا نسبة الشك في قدرة الله تعالى إلى زكريا    - عليه السلام - . 
فإن قلنا : إنه كان عالما بقدرة الله على ذلك لم تكن مشاهدة تلك الأشياء سببا لزيادة علمه بقدرة الله   [ ص: 30 ] تعالى ، فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك ، فلا يبقى لقوله هنالك أثر . 
والجواب : أنه كان قبل ذلك عالما بالجواز ، فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالما به ، فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي ، فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى ، فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات . 
المسألة الثالثة : إن دعاء الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - لا يكون إلا بعد الإذن  ، لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة ، فحينئذ تصير دعوته مردودة ، وذلك نقصان في منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، هكذا قاله المتكلمون ، وعندي فيه بحث ، وذلك لأنه تعالى لما أذن في الدعاء مطلقا ، وبين أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب ، فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية  ، ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب ، وذلك لا يكون نقصانا بمنصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ؛ لأنهم على باب رحمة الله تعالى سائلون ، فإن أجابهم فبفضله وإحسانه ، وإن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون له منصب على باب الخالق . 
أما قوله تعالى حكاية عن زكريا    - عليه السلام - : ( هب لي من لدنك ذرية طيبة    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : أما الكلام في لفظة : " لدن " فسيأتي في سورة الكهف ، والفائدة في ذكره هاهنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة ، فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى : أريد منك إلهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب . 
المسألة الثانية : الذرية : النسل ، وهو لفظ يقع على الواحد والجمع ، والذكر والأنثى ، والمراد منه هاهنا : ولد واحد ، وهو مثل قوله : ( فهب لي من لدنك وليا    ) [ مريم : 5 ] قال الفراء : وأنث " طيبة " لتأنيث الذرية في الظاهر ، فالتأنيث والتذكير تارة يجيء على اللفظ ، وتارة على المعنى ، وهذا إنما نقوله في أسماء الأجناس ، أما في أسماء الأعلام فلا ، لأنه لا يجوز أن يقال جاءت طلحة ؛ لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان ذلك الشخص مذكرا لم يجز فيها إلا التذكير . 
المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( إنك سميع الدعاء    ) ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم ، بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه ، وهو كقول المصلين : سمع الله لمن حمده ، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين ، وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا    - عليه السلام - في سورة مريم ( ولم أكن بدعائك رب شقيا    ) [ مريم : 4 ] . 
 
				
 
						 
						

 
					 
					