ثم قال تعالى : ( بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : في قوله : ( بما كنتم تعلمون الكتاب    ) قراءتان : إحداهما : ( تعلمون ) من العلم ، وهي   [ ص: 99 ] قراءة  عبد الله بن كثير  ، وأبي عمرو  ، ونافع    . 
والثانية : ( تعلمون ) من التعليم وهي قراءة الباقين من السبعة وكلاهما صواب ؛ لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم ويعلمونه غيرهم ، واحتج أبو عمرو  على أن قراءته أرجح بوجهين : 
الأول : أنه قال : ( تدرسون ) ولم يقل بالتشديد . 
الثاني : أن التشديد يقتضي مفعولين والمفعول هاهنا واحد ، وأما الذين قرءوا بالتشديد فزعموا أن المفعول الثاني محذوف تقديره : بما كنتم تعلمون الناس الكتاب ، أو غيركم الكتاب ، وحذف ؛ لأن المفعول به قد يحذف من الكلام كثيرا ، ثم احتجوا على أن التشديد أولى بوجهين : 
الأول : أن التعليم يشتمل على العلم ولا ينعكس فكان التعليم أولى . 
الثاني : أن الربانيين لا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم لله تعالى  ألا ترى أنه تعالى أمر محمدا    - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة    ) [ النحل : 125 ] ، ويدل عليه قول مرة بن شراحيل    : كان علقمة  من الربانيين الذين يعلمون الناس القرآن . 
المسألة الثانية : نقل  ابن جني  في " المحتسب " ، عن أبي حيوة  أنه قرأ ( تدرسون ) بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء ، قال  ابن جني    : ينبغي أن يكون هذا منقولا من درس هو ، أو درس غيره ، وكذلك قرأ وأقرأ غيره ، وأكثر العرب على درس ودرس ، وعليه جاء المصدر على التدريس . 
المسألة الثالثة : " ما " في القراءتين ، هي التي بمعنى المصدر مع الفعل ، والتقدير : كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب ، ومثل هذا من كون " ما " مع الفعل بمعنى المصدر قوله تعالى : ( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا    ) [ الأعراف : 5 ] ، وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانيا ، والسبب لا محالة مغاير للمسبب ، فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا ، أمرا مغايرا لكونه عالما ، ومعلما ، ومواظبا على الدراسة ، وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله ، وتعليمه ودراسته لله ، وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله ، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله ، وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته ، وحاصل الحرف شيء واحد ، وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق  ، فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه ، وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء - صلوات الله عليهم - أن يأمر غيره بعبادته . 
المسألة الرابعة : دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا  ، فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع   " . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					