أما قوله تعالى : ( إلا ما حرم إسرائيل على نفسه    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل  على نفسه  على وجوه : 
الأول : روى  ابن عباس  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن يعقوب  مرض مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها   " ، وهذا قول  أبي العالية  وعطاء  ومقاتل    . 
والثاني : قيل : إنه كان به عرق النسا ، فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئا من العروق . 
الثالث : جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر ، ونقل القفال  رحمه الله عن ترجمة التوراة ، أن   [ ص: 122 ] يعقوب  لما خرج من حران  إلى كنعان  بعث بريدا إلى عيصو  أخيه إلى أرض ساعير  ، فانصرف الرسول إليه ، وقال : إن عيصو  هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل ، فذعر يعقوب  وحزن جدا وصلى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل ، فدنا ذلك الرجل ووضع أصبعه على موضع عرق النسا ، فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل  العروق . 
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل  حرم ذلك على نفسه ، وفيه سؤال : وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله تعالى ، فكيف صار تحريم يعقوب    - عليه السلام - سببا لحصوله الحرمة  ؟ . 
أجاب المفسرون عنه من وجوه : 
الأول : أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئا على نفسه فإن الله يحرمه عليه ، ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ، ويحرم جاريته بالعتق ، فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئا على نفسك فأنا أيضا أحرمه عليك . 
الثاني : أنه - عليه الصلاة والسلام - ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم فقال بحرمته ، وإنما قلنا : إن الاجتهاد جائز من الأنبياء  لوجوه : 
الأول : قوله تعالى : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار    ) [ الحشر : 2 ] ، ولا شك أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - رؤساء أولي الأبصار . 
والثاني : قال : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم    ) [ النساء : 83 ] مدح المستنبطين  ، والأنبياء أولى بهذا المدح . 
والثالث : قال تعالى لمحمد    - عليه الصلاة والسلام : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم    ) [ التوبة : 43 ] ، فلو كان ذلك الإذن بالنص ، لم يقل : لم أذنت ، فدل على أنه كان بالاجتهاد . 
الرابع : أنه لا طاعة إلا لله وللأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة ، فوجب أن يكون للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر ، ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم ، كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته ، والأظهر الأقوى أن إسرائيل    - صلوات الله عليه - إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرم الله على إسرائيل  ، فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل  دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال :  الشافعي  يحل لحم الخيل ،  وأبو حنيفة  يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا هاهنا . 
الثالث : يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا ، فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم . 
واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصا بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت ، قال تعالى : ( ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك    ) [ التحريم : 1 ] . الرابع : قال الأصم    : لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس وطلبا لمرضاة الله تعالى ، كما يفعله كثير من الزهاد فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم . 
الخامس : قال قوم من المتكلمين إنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب  ، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب ، وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					