( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين  فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا    ) 
قوله تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين  فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا    ) في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه : 
الأول : أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود  في إنكار نبوة محمد  عليه الصلاة والسلام ، وذلك لأنه عليه السلام لما حول القبلة إلى الكعبة  طعن اليهود  في نبوته  ، وقالوا : إن بيت المقدس  أفضل من الكعبة  وأحق بالاستقبال ، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة  ، وهو أرض المحشر ، وقبلة جملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة  باطلا ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : ( إن أول بيت وضع للناس    ) فبين تعالى أن الكعبة  أفضل من بيت المقدس  وأشرف ، فكان جعلها قبلة أولى    . 
والثاني : أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا  ؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استدل على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل  ، ثم إن الله تعالى حرم بعضها ، والقوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله نسخها هو القبلة ، لا جرم ذكر تعالى في هذه الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة  ، وهو كون الكعبة  أفضل من غيرها . 
الثالث : أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة : ( فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين    ) [ آل عمران : 95 ] وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم  الحج  ، ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ، ليفرع عليه إيجاب الحج . 
الرابع : أن اليهود  والنصارى  زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم  ، وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة ، فإن الله تعالى بين كذبهم ، من حيث إن حج الكعبة  كان ملة إبراهيم  ، واليهود  والنصارى  لا يحجون ، فيدل هذا على كذبهم في ذلك ، وفي الآية مسائل : 
المسألة الأولى : قال المحققون : الأول هو الفرد السابق ، فإذا قال : أول عبد أشتريه فهو حر فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منهما لأن الأول هو الفرد ، ثم لو اشترى في المرة الثانية عبدا واحدا لم يعتق ، لأن شرط الأول كونه سابقا فثبت أن الأول هو الفرد السابق . 
إذا عرفت هذا فنقول : إن قوله تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس    ) لا يدل على أنه أول بيت خلقه الله   [ ص: 125 ] تعالى ، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض ، بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس  ، وكونه موضوعا للناس يقتضي كونه مشتركا فيه بين جميع الناس ، فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصا بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعا للناس ، وكون البيت مشتركا فيه بين كل الناس ، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعا للطاعات والعبادات وقبلة للخلق ، فدل قوله تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس    ) على أن هذا البيت وضعه الله موضعا للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات ، وموضعا للحج ، ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه . 
فإن قيل : كونه أولا في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان ، وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس  يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه ، ومعلوم أنه ليس كذلك . 
والجواب : من وجهين : الأول : أن لفظ الأول في اللغة  اسم للشيء الذي يوجد ابتداء ، سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل ، يقال : هذا أول قدومي مكة  ، وهذا أول مال أصبته ، ولو قال : أول عبد ملكته فهو حر فملك عبدا ، عتق ، وإن لم يملك بعده عبدا آخر ، فكذا هنا . والثاني : أن المراد من قوله : ( إن أول بيت وضع للناس    ) أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم ، وبيت المقدس  يشاركه في كونه بيتا موضوعا للطاعات والعبادات ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام :   " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد    : المسجد الحرام  ، والمسجد الأقصى  ، ومسجدي هذا " فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة  أول بيت وضع للناس ، وأما أن يكون بيت المقدس  مشاركا له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج ، فهذا غير لازم والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					