[ ص: 28 ] المسألة الثالثة : احتج العلماء بهذه الآية على أن صيغة الأمر تفيد الوجوب ، فقالوا : إنه تعالى ذم إبليس بهذه الآية على ترك ما أمر به ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به موجبا للذم . 
فإن قالوا : هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب ، فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب . فلم قلتم : إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك ؟ 
قلنا : قوله تعالى : ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك    )  يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر ، لأن قوله : ( إذ أمرتك    ) مذكور في معرض التعليل ، والمذكور في قوله : ( إذ أمرتك    ) هو الأمر من حيث إنه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون ترك الأمر من حيث إنه أمر موجبا للذم ، وذلك يفيد أن كل أمر فإنه يقتضي الوجوب وهو المطلوب . 
المسألة الرابعة : احتج من زعم أن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قال : إنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال ، ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب هذا الذم بترك السجود في الحال . 
المسألة الخامسة : اعلم أن قوله تعالى : ( ما منعك ألا تسجد    ) طلب الداعي الذي دعاه إلى ترك السجود ، فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي ، وهو أنه قال : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين    ) ومعناه : إن إبليس قال : إنما لم أسجد لآدم ؛ لأني خير منه ، ومن كان خيرا من غيره ، فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدون ، ثم بين المقدمة الأولى وهو قوله : ( أنا خير منه    ) بأن قال : ( خلقتني من نار وخلقته من طين    ) والنار أفضل من الطين ، والمخلوق من الأفضل أفضل ، فوجب كون إبليس خيرا من آدم    . أما بيان أن النار أفضل من الطين ، فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السماوات ملاصق لها ، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السماوات ، وأيضا فالنار قوية التأثير والفعل ، والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال . والفعل أشرف من الانفعال ، وأيضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة ، وأما الأرضية والبرد واليبس فهما مناسبان للموت . والحياة أشرف من الموت ، وأيضا فنضج الثمار متعلق بالحرارة ، وأيضا فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين ، وأما وقت الشيخوخة ، فهو وقت البرد واليبس المناسب ، لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان . فأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر ؛ لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع . 
وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون ؛ فلأنه قد تقرر في العقول أن من أمر  أبا حنيفة   والشافعي  وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول ، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس . 
فنقول : هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاثة . 
أولها : إن النار أفضل من التراب ، فهذا قد تكلمنا فيه في سورة البقرة . 
وأما المقدمة الثانية : وهي أن من كانت مادته أفضل فصورته أفضل ، فهذا هو محل النزاع والبحث ؛ لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة . ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر ، والنور من الظلمة والظلمة من النور ، وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى  لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر . 
وأيضا التكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل ، فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه ، وأيضا فالفضل إنما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة . ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					