الوجه الثاني : من الوجوه المذكورة في تفسير أصحاب الأعراف . قالوا : المراد من أصحاب الأعراف  أقوام خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فحبسوا بين الجنة والنار . 
 [ ص: 74 ] واعلم أن هذا القول داخل في القول الأول ؛ لأن هؤلاء إنما صاروا من أصحاب الأعراف ؛ لأن معصيتهم ساوت طاعتهم بالجهاد ، فهذا أحد الأمور الداخلة تحت الوجه الأول . وبتقدير أن يصح ذلك الوجه . فلا معنى لتخصيص هذه الصورة وقصر لفظ الآية عليها . 
والوجه الثالث : قال عبد الله بن الحرث    : إنهم مساكين أهل الجنة . 
والوجه الرابع : قال قوم : إنهم الفساق من أهل الصلاة, يعفو الله عنهم ويسكنهم في الأعراف . فهذا كله شرح قول من يقول : الأعراف عبارة عن الأمكنة العالية على السور المضروب بين الجنة وبين النار . 
وأما الذين يقولون : الأعراف عبارة عن الرجال الذين يعرفون أهل الجنة وأهل النار ؛ فهذا القول أيضا غير بعيد إلا أن هؤلاء الأقوام لا بد لهم من مكان عال يشرفون منه على أهل الجنة وأهل النار . وحينئذ يعود هذا القول إلى القول الأول . فهذه تفاصيل أقوال الناس في هذا الباب . والله أعلم . 
ثم إنه تعالى أخبر أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم, واختلفوا في المراد بقوله : ( بسيماهم ) على وجوه : 
فالقول الأول : وهو قول  ابن عباس    : أن سيما الرجل المسلم من أهل الجنة  بياض وجهه ، كما قال تعالى : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه    ) [آل عمران : 106] وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة ، وكون كل واحد منهم أغر محجلا من آثار الوضوء ، وعلامة الكفار سواد وجوههم ، وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة ، وكون عيونهم زرقا . 
ولقائل أن يقول : إنهم لما شاهدوا أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، فأي حاجة إلى أن يستدل على كونهم من أهل الجنة بهذه العلامات ؟ لأن هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحس ، وذلك باطل . 
وأيضا فهذه الآية تدل على أن أصحاب الأعراف مختصون بهذه المعرفة ، ولو حملناه على هذا الوجه لم يبق هذا الاختصاص ؛ لأن هذه الأحوال أمور محسوسة ، فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص . 
والقول الثاني في تفسير هذه الآية أن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم, ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضا بظهور علامات الكفر والفسق عليهم ، فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا ، وهذا الوجه هو المختار . 
أما قوله تعالى : ( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم    ) فالمعنى إنهم إذا نظروا إلى أهل الجنة سلموا على أهلها ، وعند هذا تم كلام أهل الأعراف . 
ثم قال : ( لم يدخلوها وهم يطمعون    ) والمعنى أنه تعالى أخبر أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة ، ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها ، ثم إن قلنا : إن أصحاب الأعراف هم الأشراف من أهل الجنة فقد ذكرنا أنه تعالى إنما أجلسهم على الأعراف , وأخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار ، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء ، وإن أبا بكر  وعمر  منهم   " . 
وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة  ، فعند وقوف أهل القيامة في الموقف يجلس الله أهل الأعراف في   [ ص: 75 ] الأعراف ، وهي المواضع العالية الشريفة ، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار نقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة ، فهم أبدا لا يجلسون إلا في الدرجات العالية . 
وأما إن فسرنا أصحاب الأعراف بأنهم الذين يكونون في الدرجة النازلة من أهل النجاة قلنا : إنه تعالى يجلسهم في الأعراف وهم يطمعون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من تلك المواضع إلى الجنة . 
وأما قوله تعالى : ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار    ) فقال الواحدي  رحمه الله : التلقاء جهة اللقاء ، وهي جهة المقابلة ، ولذلك كان ظرفا من ظروف المكان, يقال : فلان تلقاءك ، كما يقال : هو حذاءك ، وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفا ، ثم نقل الواحدي  رحمه الله بإسناده عن ثعلب  عن الكوفيين   والمبرد  عن البصريين  أنهما قالا : لم يأت من المصادر على تفعال " إلا " حرفان تبيان وتلقاء ، فإذا تركت هذين استوى ذلك القياس ، فقلت : في كل مصدر تفعال بفتح التاء ، مثل تسيار وترسال . وقلت : في كل اسم تفعال بكسر التاء ، مثل تمثال وتقصار ، ومعنى الآية : أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم    . والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف ، حتى يقدم المرء على النظر والاستدلال ، ولا يرضى بالتقليد ليفوز بالدين الحق ، فيصل بسببه إلى الثواب المذكور في هذه الآيات ، ويتخلص عن العقاب المذكور فيها . 
				
						
						
