المسألة الرابعة : دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر  رضي الله عنه  من وجوه : الأول : أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار ؛ لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله ، فلولا أنه عليه السلام كان قاطعا على باطن أبي بكر  ، بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع ؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره ، لخافه من أن يدل أعداءه عليه ، وأيضا لخافه من أن يقدم على   [ ص: 52 ] قتله ، فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة ، دل على أنه عليه السلام كان قاطعا بأن باطنه على وفق ظاهره . 
الثاني : وهو أن الهجرة كانت بإذن الله تعالى  ، وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله أقرب من أبي بكر  ، فلولا أن الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر  في تلك الواقعة الصعبة الهائلة ، وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة ، وتخصيص الله إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين . 
الثالث : أن كل من سوى أبي بكر  فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما هو فما سبق رسول الله كغيره ، بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم . 
الرابع : أنه تعالى سماه( ثاني اثنين    ) فجعله ثاني محمد  عليه السلام حال كونهما في الغار ، والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد  في أكثر المناصب الدينية ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أرسل إلى الخلق ، وعرض الإسلام على أبي بكر  آمن أبو بكر  ، ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة  والزبير   وعثمان بن عفان  ، وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، والكل آمنوا على يديه ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام قلائل ، فكان هو رضي الله عنه( ثاني اثنين    ) في الدعوة إلى الله ، وأيضا كلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، كان أبو بكر  رضي الله عنه يقف في خدمته ، ولا يفارقه ، فكان ثاني اثنين في مجلسه ، ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة ، فكان ثاني اثنين ، ولما توفي دفن بجنبه ، فكان ثاني اثنين هناك أيضا ، وطعن بعض الحمقى من الروافض  في هذا الوجه ، وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعا لكل ثلاث في قوله :( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم    ) [المجادلة : 7] ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن ، فلما لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالا على فضيلة الإنسان ، فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى . 
والجواب : أن هذا تعسف بارد ؛ لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلعا على ضمير كل أحد ، أما ههنا فالمراد بقوله تعالى :( ثاني اثنين    ) تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم ، وأيضا قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه صلى الله عليه وسلم كان قاطعا بأن باطنه كظاهره ، فأين أحد الجانبين من الآخر ؟ 
والوجه الخامس : من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر  رضي الله عنه لما حزن ، قال عليه الصلاة والسلام : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟   " ولا شك أن هذا منصب علي ، ودرجة رفيعة . 
واعلم أن الروافض  في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا : وحق خمسة سادسهم جبريل  ، وأرادوا به أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعليا  وفاطمة  والحسن  والحسين  ، كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة ، فجاء جبريل  وجعل نفسه سادسا لهم ، فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون ، فقال رحمه الله : لكم ما هو خير منه بقوله : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما   " ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل . 
والوجه السادس : أنه تعالى وصف أبا بكر  بكونه صاحبا للرسول ، وذلك يدل على كمال الفضل ، قال الحسين بن فضيل البجلي    : من أنكر أن يكون أبو بكر  صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان كافرا ؛ لأن الأمة مجمعة على أن المراد من( إذ يقول لصاحبه    ) هو أبو بكر  ، وذلك يدل على أن الله تعالى وصفه بكونه صاحبا له ، اعترضوا وقالوا : إن الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحبا للمؤمن ، وهو قوله :( قال له صاحبه وهو يحاوره    )   [ ص: 53 ]   ( أكفرت بالذي خلقك من تراب    ) [الكهف : 37] . 
والجواب : أن هناك وإن وصفه بكونه صاحبا له ذكرا ، إلا أنه أردفه بما يدل على الإهانة والإذلال ، وهو قوله :( أكفرت    ) أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحبا له ، ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله :( لا تحزن إن الله معنا    ) فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة ؟ 
والوجه السابع : في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر  ، قوله :( لا تحزن إن الله معنا    ) ولا شك أن المراد من هذه المعية ، المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة ، وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر  في هذه المعية ، فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد ، لزمهم إدخال الرسول فيه ، وإن حملوها على محمل رفيع شريف ، لزمهم إدخال أبي بكر فيه ، ونقول بعبارة أخرى : دلت الآية على أن أبا بكر  كان الله معه ، وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين  ؛ لقوله تعالى :( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون    ) [النحل : 128] والمراد منه الحصر ، والمعنى : إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم ، وذلك يدل على أن أبا بكر  من المتقين المحسنين . 
والوجه الثامن : في تقرير هذا المطلوب أن قوله :( إن الله معنا    ) يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية ، كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وذلك منصب في غاية الشرف . 
والوجه التاسع : أن قوله :( لا تحزن    ) نهي عن الحزن مطلقا ، والنهي يوجب الدوام والتكرار ، وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر  بعد ذلك البتة ، قبل الموت وعند الموت وبعد الموت . 
والوجه العاشر : قوله :( فأنزل الله سكينته عليه    ) ومن قال : الضمير في قوله :( عليه    ) عائد إلى الرسول فهذا باطل لوجوه : 
الوجه الأول : أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر  ؛ لأنه تعالى قال :( إذ يقول لصاحبه    ) والتقدير : إذ يقول محمد  لصاحبه أبي بكر    : لا تحزن ، وعلى هذا التقدير : فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر  ، فوجب عود الضمير إليه . 
والوجه الثاني : أن الحزن والخوف كان حاصلا لأبي بكر  لا للرسول عليه الصلاة والسلام ، فإنه عليه السلام كان آمنا ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش  ، فلما قال لأبي بكر    : لا تحزن صار آمنا ، فصرف السكينة إلى أبي بكر  ؛ ليصير ذلك سببا لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مع أنه قبل ذلك كان ساكن القلب ، قوي النفس . 
والوجه الثالث : أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال : إن الرسول كان قبل ذلك خائفا ، ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر    :( لا تحزن إن الله معنا    ) فمن كان خائفا كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ؟ ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال : فأنزل الله سكينته عليه ، فقال لصاحبه : لا تحزن ، ولما لم يكن كذلك ، بل ذكر أولا أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه : لا تحزن ، ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة ، وهو قوله :( فأنزل الله سكينته عليه    ) علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة   [ ص: 54 ] على قلب أبي بكر    . 
فإن قيل : وجب أن يكون قوله :( فأنزل الله سكينته عليه    ) المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول ، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله :( وأيده بجنود لم تروها    ) وهذا لا يليق إلا بالرسول ، والمعطوف يجب كونه مشاركا للمعطوف عليه ، فلما كان هذا المعطوف عائدا إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائدا إلى الرسول . 
قلنا : هذا ضعيف ؛ لأن قوله :( وأيده بجنود لم تروها    ) إشارة إلى قصة بدر  وهو معطوف على قوله :( فقد نصره الله    ) وتقدير الآية : إلا تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار ، إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر  ، وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال . 
الوجه الحادي عشر : من الوجوه الدالة على فضل أبي بكر  من هذه الآية إطباق الكل على أن أبا بكر  هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى أن  عبد الرحمن بن أبي بكر   وأسماء بنت أبي بكر  هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام ، روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : "لقد كنت أنا وصاحبي في الغار بضعة عشر يوما ، وليس لنا طعام إلا التمر" وذكروا أن جبريل  أتاه وهو جائع ، فقال : هذه أسماء  قد أتت بحيس ، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأخبر به أبا بكر  ، ولما أمر الله رسوله بالخروج إلى المدينة  أظهره لأبي بكر  ، فأمر ابنه عبد الرحمن  أن يشتري جملين ورحلين وكسوتين ، ويفصل أحدهما للرسول عليه الصلاة والسلام ، فلما قربا من المدينة  وصل الخبر إلى الأنصار  فخرجوا مسرعين ، فخاف أبو بكر  أنهم لا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام ، فألبس رسول الله ثوبه ، ليعرفوا أن الرسول هو هو ، فلما دنوا خروا له سجدا فقال لهم : "اسجدوا لربكم وأكرموا أخا لكم" ثم أناخت ناقته بباب أبي أيوب  ، روينا هذه الروايات من تفسير  أبي بكر الأصم    . 
الوجه الثاني عشر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة  ما كان معه إلا أبو بكر  ، والأنصار  ما رأوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا إلا أبا بكر  ، وذلك يدل على أنه كان يصطفيه لنفسه من بين أصحابه في السفر والحضر ، وإن أصحابنا زادوا عليه وقالوا : لما لم يحضر معه في ذلك السفر أحد إلا أبو بكر  ، فلو قدرنا أنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر ، لزم أن لا يقوم بأمره إلا أبو بكر  ، وأن لا يكون وصيه على أمته إلا أبو بكر  ، وأن لا يبلغ ما حدث من الوحي والتنزيل في ذلك الطريق إلى أمته إلا أبو بكر  ، وكل ذلك يدل على الفضائل العالية والدرجات الرفيعة لأبي بكر    . 
واعلم أن الروافض  احتجوا بهذه الآية ، وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر   من وجوه ضعيفة حقيرة ، جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين : 
فالأول : قالوا : إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر    : " لا تحزن   " فذلك الحزن إن كان حقا فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه ؟ وإن كان خطأ ، لزم أن يكون أبو بكر  مذنبا وعاصيا في ذلك الحزن . 
والثاني : قالوا يحتمل أن يقال : إنه استخلصه لنفسه ؛ لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه ، وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه ، فأخذه مع نفسه دفعا لهذا الشر . 
والثالث : أنه وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر  إلا أنه أمر عليا  بأن يضطجع على فراشه ، ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض   [ ص: 55 ] النفس للفداء ، فهذا العمل من علي  أعلى وأعظم من كون أبي بكر  صاحبا للرسول ، فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب . 
والجواب عن الأول : أن أبا علي الجبائي  لما حكى عنهم تلك الشبهة ، قال : فيقال لهم : يجب في قوله تعالى لموسى  عليه السلام :( لا تخف إنك أنت الأعلى    ) [طه : 68] أن يدل على أنه كان عاصيا في خوفه ، وذلك طعن في الأنبياء ، ويجب في قوله تعالى في إبراهيم  ، حيث قالت الملائكة له :( لا تخف    ) في قصة العجل المشوي مثل ذلك ، وفي قولهم للوط    :( لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك    ) [العنكبوت : 33] مثل ذلك . 
فإذا قالوا : إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله :( لا تخف    ) ليفيد الأمن ، وفراغ القلب . 
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك . 
فإن قالوا : أليس إنه تعالى قال :( والله يعصمك من الناس    ) [المائدة : 67] فكيف خاف مع سماع هذه الآية ؟ فنقول : هذه الآية إنما نزلت في المدينة  ، وهذه الواقعة سابقة على نزولها ، وأيضا فهب أنه كان آمنا على عدم القتل ، ولكنه ما كان آمنا من الضرب ، والجرح والإيلام الشديد . والعجب منهم ، فإنا لو قدرنا أن أبا بكر  ما كان خائفا ، لقالوا : إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء ، ولما خاف وبكى قالوا هذا السؤال الركيك ، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق ، وإنما مقصودهم محض الطعن! . 
والجواب عن الثاني : أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية ، فإن أبا بكر  لو كان قاصدا له ، لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار ، وقال لهم : نحن ههنا ، ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن  وأسماء  للكفار : نحن نعرف مكان محمد  فندلكم عليه ، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك . 
والجواب عن الثالث من وجوه : 
الأول : أنا لا ننكر أن اضطجاع  علي بن أبي طالب  في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع ، إلا أنا ندعي أن أبا بكر  بمصاحبته كان حاضرا في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلي  كان غائبا ، والحاضر أعلى حالا من الغائب . 
الثاني : أن عليا  ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة ، أما بعدها لما عرفوا أن محمدا  غاب تركوه ، ولم يتعرضوا له . أما أبو بكر  ، فإنه بسبب كونه مع محمد  عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة ، فكان بلاؤه أشد . 
الثالث : أن أبا بكر  رضي الله عنه كان مشهورا فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد  عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه ، وشاهدوا منه أنه دعا جمعا من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين ، وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته ، وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان ، وكان يذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال ، وأما  علي بن أبي طالب  رضي الله عنه ، فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن ، وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة ، ولا جهاد بالسيف والسنان ؛ لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة  بمدة مديدة ، فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال ، وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر  لا محالة أشد من غضبهم على علي  ، ولهذا السبب ، فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش   [ ص: 56 ] هو علي  لم يتعرضوا له البتة ، ولم يقصدوه بضرب ولا ألم ، فعلمنا أن خوف أبي بكر  على نفسه في خدمة محمد  صلى الله عليه وسلم أشد من خوف علي  كرم الله وجهه ، فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل ، هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار . 
أما قوله تعالى :( وأيده بجنود لم تروها    ) فاعلم أن تقدير الآية أن يقال :( إلا تنصروه    ) فلا بد له ذلك بدليل صورتين . 
الصورة الأولى : أنه قد نصره في واقعة الهجرة( إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه    ) . 
والصورة الثانية : واقعة بدر  ، وهي المراد من قوله :( وأيده بجنود لم تروها    ) لأنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر  ، وأيد رسوله صلى الله عليه وسلم بهم ، فقوله :( وأيده بجنود لم تروها    ) معطوف على قوله :( فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا    ) . 
ثم قال تعالى :( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا    ) والمعنى أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة ، وكلمة الله هي العليا  ، وهي قوله : لا إله إلا الله ، قال الواحدي    : والاختيار في قوله :( وكلمة الله    ) الرفع ، وهي قراءة العامة على الاستئناف ، قال الفراء    : ويجوز " كلمة الله " بالنصب ، ولا أحب هذه القراءة ؛ لأنه لو نصبها لكان الأجود أن يقال : وكلمة الله العليا ، ألا ترى أنك تقول : أعتق أبوك غلامه ، ولا تقول : أعتق غلامه أبوك ؟ . 
ثم قال :( والله عزيز حكيم    ) أي : قاهر غالب ، لا يفعل إلا الصواب . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					