الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : في تعريف الأصناف الثمانية ، فالأول والثاني هم الفقراء والمساكين ، ولا شك أنهم هم المحتاجون الذي لا يفي خرجهم بدخلهم . ثم اختلفوا ، فقال بعضهم : الذي يكون أشد حاجة هو الفقير ، وهو قول الشافعي رحمه الله وأصحابه . وقال آخرون : الذي أشد حاجة هو المسكين ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ، ومن الناس من قال : لا فرق بين الفقراء والمساكين ، والله تعالى وصفهم بهذين الوصفين ، والمقصود شيء واحد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ، واختيار أبي علي الجبائي ، وفائدته تظهر في هذه المسألة ، وهو أنه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ، فالذين قالوا : الفقراء غير المساكين قالوا : لفلان الثلث ، والذين قالوا : الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف . وقال الجبائي : إنه [ ص: 86 ] تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات ؛ لأنهم هم الأصول في الأصناف الثمانية . وأيضا الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن فائدة هذا الاختلاف لا تظهر في تفرقة الصدقات ، وإنما تظهر في الوصايا ، وهو أن رجلا لو قال : أوصيت للفقراء بمائتين ، وللمساكين بخمسين ، وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه الله إلى من كان أشد حاجة ، وعند أبي حنيفة رحمه الله إلى من كان أقل حاجة ، وحجة الشافعي رحمه الله وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف ؛ دفعا لحاجتهم وتحصيلا لمصلحتهم ، وهذا يدل على أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة ؛ لأن الظاهر وجوب تقديم الأهم على المهم ، ألا ترى أنه يقال : أبو بكر وعمر ؛ ومن فضل عثمان على علي عليه السلام قال في ذكرهما : عثمان وعلي ، ومن فضل عليا على عثمان يقول : علي وعثمان ، وأنشد عمر قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا



                                                                                                                                                                                                                                            فقال : هلا قدم الإسلام على الشيب ! فلما وقع الابتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من حاجة المساكين .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : قال أحمد بن عبيد : الفقير أسوأ حالا من المسكين ؛ لأن الفقير أصله في اللغة : المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره ، فصرف عن مفقور إلى فقير ، كما قيل : مطبوخ وطبيخ ، ومجروح وجريح ، فثبت أن الفقير إنما سمي فقيرا لزمانته مع حاجته الشديدة ، وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ، ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال . وأنشدوا للبيد :


                                                                                                                                                                                                                                            لما رأى لبد النسور تطايرت     رفع القوادم كالفقير الأعزل



                                                                                                                                                                                                                                            قال ابن الأعرابي : في هذا البيت : الفقير المكسور الفقار ، يضرب مثلا لكل ضعيف لا يتقلب في الأمور . ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى :( ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة ) [ القيامة : 24 - 25 ] . جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يتعوذ من الفقر ، وقال : " كاد الفقر أن يكون كفرا " ، ثم قال : " اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين " ، فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لتناقض الحديثان ؛ لأنه تعوذ من الفقر ، ثم سأل حالا أسوأ منه ، أما إذا قلنا : الفقر أشد من المسكنة فلا تناقض البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أن كونه مسكينا ، لا ينافي كونه مالكا للمال ، بدليل قوله تعالى :( أما السفينة فكانت لمساكين ) [ الكهف : 79 ] . فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير ، ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الإنسان سمي فقيرا مع أنه يملك شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : الدليل عليه قوله تعالى :( والله الغني وأنتم الفقراء ) [ محمد : 38 ] . فوصف الكل بالفقر مع أنهم يملكون أشياء .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 87 ] قلنا : هذا بالضد أولى ؛ لأنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى الله تعالى ، فإن أحدا سوى الله تعالى لا يملك البتة شيئا بالنسبة إلى الله ، فصح قولنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : قوله تعالى :( أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ) [ البلد : 16 ] . والمراد من المسكين ذي المتربة : الفقير الذي قد ألصق بالتراب من شدة الفقر ، فتقييد المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه ذا متربة ؛ وإنما يكون كذلك بتقدير أن يملك شيئا ، فهذا يدل على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه السادس : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الفقير هو المحتاج الذي لا يجد شيئا . قال : وهم أهل الصفة ، صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم ، فمن كان من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا ، والمساكين : هم الطوافون الذين يسألون الناس .

                                                                                                                                                                                                                                            وجه الاستدلال : أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر ، فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم ، وفسر المساكين بالطوافين ، ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي لا يسأل أحدا شيئا أشد من أحوال من يحتاج ثم يسأل الناس ويطوف عليهم ، ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حالا من المسكين .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه السابع : أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون ، فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى تضرع إليهم أعطوه شيئا فقد سكن قلبه ، وزال عنه الخوف والقلق ، ويحتمل أنه سمي بهذا الاسم لأنه إذا أجيب بالرد ومنع سكن ، ولم يضطرب وأعاد السؤال ؛ فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال والتضرع عند الغير ، ويقال : تمسكن الرجل إذا لان وتواضع ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي : " تأن وتمسكن " ، ويريد تواضع وتخشع ، فدل هذا على أن المسكين هو السائل .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قال في آية أخرى :( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) [ الذاريات : 19 ] . فلما ثبت بما ذكرنا ههنا أن المسكين هو السائل ، وجب أن يكون المحروم هو الفقير ، ولا شك أن المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان ، فثبت أن الفقير أسوأ حالا من المسكين .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثامن : أنه عليه الصلاة والسلام قال : " أحيني مسكينا " الحديث ، والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه فأماته مسكينا ، وهو عليه الصلاة والسلام حين توفي كان يملك أشياء كثيرة ، فدل هذا على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء ، أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " كاد الفقر أن يكون كفرا " ، فثبت بهذا أن الفقر أشد حالا من المسكنة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه التاسع : أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان ، كما أن السواد والبياض ضدان ، ولم يقل أحد : إن الغنى والمسكنة ضدان ، بل قالوا : الترفع والتمسكن ضدان ؛ فمن كان منقادا لكل أحد ، خائفا منهم ، متحملا لشرهم ، ساكتا عن جوابهم ، متضرعا إليهم ، قالوا : إن فلانا يظهر الذل والمسكنة ، وقالوا : إنه مسكين عاجز ، وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغني ، وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه مسكينا ، إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك المعارضة ، وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعا عن التواضع والمسكنة ، فثبت أن الفقر عبارة عن عدم المال ، والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع ، والأول ينافي حصول المال ، والثاني لا ينافي حصوله .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 88 ] الوجه العاشر : قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ في الزكاة : " خذها من أغنيائهم ، وردها على فقرائهم " ، ولو كانت الحاجة في المساكين أشد لوجب أن يقول : وردها على مساكينهم ؛ لأن ذكر الأهم أولى ، فهذه الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ من المسكين ، واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ حالا من الفقير بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : احتجوا بقوله تعالى :( أو مسكينا ذا متربة ) [ البلد : 16 ] . وصف المسكين بكونه ذا متربة ، وذلك يدل على نهاية الضر والشدة ، وأيضا أنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة له ، ولا فاقة أعظم من الحاجة إلى إزالة الجوع .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : احتجوا بقول الراعي :


                                                                                                                                                                                                                                            أما الفقير الذي كانت حلوبته     وفق العيال فلم يترك له سبد



                                                                                                                                                                                                                                            سماه فقيرا وله حلوبة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قالوا : المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه ، وذلك يدل على نهاية الضر والبؤس .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : نقلوا عن الأصمعي ، وعن أبي عمرو بن العلاء أنهما قالا : الفقير الذي له ما يأكل ، والمسكين الذي لا شيء له ، وقال يونس : الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه ، والمسكين هو الذي لا شيء له ، وقلت لأعرابي : أفقير أنت ؟ قال : لا والله بل مسكين .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن تمسكهم بالآية : أنا بينا أن هذه الآية حجة لنا ، فإنه لما قيد المسكين المذكور ههنا بكونه ذا متربة دل ذلك على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة ، وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة . قوله : إنه صرف الطعام الواجب في الكفارات إليه ، قلنا : نعم إنه أوجب صرفه إلى المسكين المقيد بقيد كونه ذا متربة ، وهذا لا يدل على أنه أوجب الصرف إلى مطلق المسكين .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن استدلالهم ببيت الراعي : أنه ذكر أن هذا الذي هو الآن موصوف بكونه فقيرا فقد كانت له حلوبة ، ثم السيد لم يترك له شيئا ، فلم لا يجوز أن يقال : كانت له حلوبة ، ثم لما لم يترك له شيء وصف بكونه فقيرا ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن قولهم : المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : بل المسكين هو الطواف على الناس الذي يكثر إقدامه على السؤال ، وسمي مسكينا إما لسكونه عندما ينتهرونه ويردونه ، وإما لسكون قلبه بسبب علمه أن الناس لا يضيعونه مع كثرة سؤاله إياهم ، وأما الروايات التي ذكروها عن أبي عمرو ويونس ، فهذا معارض بقول الشافعي ، وابن الأنباري رحمهما الله ، وأيضا نقل القفال في " تفسيره " عن جابر بن عبد الله أنه قال : الفقراء فقراء المهاجرين ، والمساكين الذين لم يهاجروا ، وعن الحسن : الفقير الجالس في بيته ، والمسكين الذي يسعى ، وعن مجاهد : الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين الذي يسأل ، وعن الزهري : الفقراء هم المتعففون الذين لا يخرجون ، والمساكين الذين يسألون . قال مولانا الداعي إلى الله : هذه الأقوال كلها متوافقة على أن الفقير لا يسأل ، والمسكين يسأل ، ومن سأل وجد ، فكان المسكين أسهل وأقل حاجة .

                                                                                                                                                                                                                                            الصنف الثالث : قوله تعالى :( والعاملين عليها ) وهم السعاة لجباية الصدقة ، وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، وقول عبد الله بن عمر وابن زيد ، وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن من الصدقات ، وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي رحمه الله يقول : هذا أجرة [ ص: 89 ] العمل ، فيتقدر بقدر العمل ، والصحيح أن مولى الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملا على الصدقات ليناله منها ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عاملا على الصدقات ، وقال : أما علمت أن مولى القوم منهم . وإنما قال :( والعاملين عليها ) ؛ لأن كلمة على تفيد الولاية ، كما يقال : فلان على بلد كذا إذا كان واليا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الصنف الرابع : قوله تعالى :( والمؤلفة قلوبهم ) قال ابن عباس : هم قوم أشراف من الأحياء ، أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، وكانوا خمسة عشر رجلا : أبو سفيان ، والأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، وحويطب بن عبد العزى ، وسهل بن عمرو من بني عامر ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو الجهني ، وأبو السنابل ، وحكيم بن حزام ، ومالك بن عوف ، وصفوان بن أمية ، وعبد الرحمن بن يربوع ، والجد بن قيس ، وعمرو بن مرداس ، والعلاء بن الحارث ؛ أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مائة من الإبل ، ورغبهم في الإسلام ، إلا عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل ، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل ، فقال : يا رسول الله ، ما كنت أرى أن أحدا من الناس أحق بعطائك مني . فزاده عشرة ، ثم سأله فزاده عشرة ، وهكذا حتى بلغ مائة ، ثم قال حكيم : يا رسول الله ، أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " بل التي رغبت عنها " فقال : والله لا آخذ غيرها . فقيل : مات حكيم وهو أكثر قريش مالا . وشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العطايا لكن ألفهم بذلك . قال المصنف رحمه الله : هذه العطايا إنما كانت يوم حنين ولا تعلق لها بالصدقات ، ولا أدري لأي سبب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذه القصة في تفسير هذه الآية ، ولعل المراد بيان أنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة ، فأما أن يجعل ذلك تفسيرا لصرف الزكاة إليهم فلا يليق بابن عباس . ونقل القفال أن أبا بكر - رضي الله عنه - أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة ، وقال : المقصود أن يستعين الإمام بهم على استخراج الصدقات من الملاك .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الواحدي : إن الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ، فإن رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ؛ إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين ، فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء ، لا من الصدقات ، وأقول : إن قول الواحدي : إن الله أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ؛ بناء على أنه ربما يوهم أنه عليه الصلاة والسلام دفع قسما من الزكاة إليهم ، لكنا بينا أن هذا لم يحصل البتة ، وأيضا فليس في الآية ما يدل على كون المؤلفة مشركين ، بل قال :( والمؤلفة قلوبهم ) ، وهذا عام في المسلم وغيره ، والصحيح أن هذا الحكم غير منسوخ ، وأن للإمام أن يتألف قوما على هذا الوصف ، ويدفع إليهم سهم المؤلفة ؛ لأنه لا دليل على نسخه البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            الصنف الخامس : قوله :( وفي الرقاب ) قال الزجاج : وفيه محذوف ، والتقدير : وفي فك الرقاب . وقد مضى الاستقصاء في " تفسيره " في سورة البقرة في قوله :( والسائلين وفي الرقاب ) [ البقرة : 177 ] . ثم في تفسير الرقاب أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به ، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله ، والليث بن سعد ، واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قوله :( وفي الرقاب ) يريد المكاتب ، وتأكد هذا بقوله تعالى :( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) [ النور : 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 90 ] والقول الثاني : وهو مذهب مالك ، وأحمد ، وإسحاق أنه موضوع لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : قول أبي حنيفة وأصحابه ، وقول سعيد بن جبير ، والنخعي ، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ، ولكن يعطى منها في رقبة ، ويعان بها مكاتب ؛ لأن قوله :( وفي الرقاب ) يقتضي أن يكون له فيه مدخل ، وذلك ينافي كونه تاما فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الرابع : قول الزهري ، قال : سهم الرقاب نصفان ؛ نصف للمكاتبين من المسلمين ، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا ، وقدم إسلامهم ، فيعتقون من الزكاة ، قال أصحابنا : والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب ، والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك ، وهو قوله :( إنما الصدقات للفقراء ) ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف في فقال :( وفي الرقاب ) فلا بد لهذا الفرق من فائدة ، وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات ، حتى يتصرفوا فيها كما شاءوا ، وأما :( وفي الرقاب ) فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق ، ولا يدفع إليهم ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاءوا ، بل يوضع في الرقاب بأن يؤدى عنهم ، وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم ، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو ، وابن السبيل كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والحاصل : أن في الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاءوا ، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم ، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة .

                                                                                                                                                                                                                                            الصنف السادس : قوله تعالى :( والغارمين ) قال الزجاج : أصل الغرم في اللغة : لزوم ما يشق ، والغرام : العذاب اللازم ، وسمي العشق غراما ؛ لكونه أمرا شاقا ولازما ، ومنه : فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعا بهن ، وسمي الدين غراما ؛ لكونه شاقا على الإنسان ولازما له ، فالمراد بالغارمين : المديونون ، ونقول : الدين إن حصل بسبب معصية لا يدخل في الآية ؛ لأن المقصود من صرف المال المذكور في الآية الإعانة ، والمعصية لا تستوجب الإعانة ، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان : دين حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ، ودين حصل بسبب حمالات وإصلاح ذات بين ، والكل داخل في الآية ، وروى الأصم في " تفسيره " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالغرة في الجنين ، قالت العاقلة : لا نملك الغرة يا رسول الله ، قال لحمد بن مالك بن النابغة : " أعنهم بغرة من صدقاتهم " . وكان حمد على الصدقة يومئذ .

                                                                                                                                                                                                                                            الصنف السابع : قوله تعالى :( وفي سبيل الله ) قال المفسرون : يعني الغزاة . قال الشافعي رحمه الله : يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنيا ، وهو مذهب مالك ، وإسحاق ، وأبي عبيد . وقال أبو حنيفة وصاحباه رحمهم الله : لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله :( وفي سبيل الله ) لا يوجب القصر على كل الغزاة ، فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء : أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير ؛ من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ؛ لأن قوله :( وفي سبيل الله ) عام في الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            والصنف الثامن : ابن السبيل قال الشافعي رحمه الله : ابن السبيل المستحق للصدقة ، وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة . قال الأصحاب : ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة ، [ ص: 91 ] جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل ، فهذا هو الكلام في شرح هذه الأصناف الثمانية .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية