أما قوله : ( فمنهم شقي وسعيد    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الضمير في قوله : ( فمنهم    ) لأهل الموقف ، ولم يذكر لأنه معلوم ، ولأن قوله : ( لا تكلم نفس إلا بإذنه    ) يدل عليه ؛ لأنه قد مر ذكر الناس في قوله : ( مجموع له الناس    ) [هود : 103 ] . 
المسألة الثانية : قوله : ( فمنهم شقي وسعيد    ) يدل ظاهره على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين . 
فإن قيل : أليس في الناس مجانين وأطفال ، وهم خارجون عن هذين القسمين ؟ 
قلنا : المراد من يحشر ممن أطلق للحساب ، وهم لا يخرجون عن هذين القسمين . 
فإن قيل : قد احتج القاضي بهذه الآية على فساد ما يقال : إن أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النار ، فما قولكم فيه ؟ 
قلنا : لما سلم أن الأطفال والمجانين خارجون عن هذين القسمين ؛ لأنهم لا يحاسبون ، فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن أصحاب الأعراف خارجون عنه ؛ لأنهم أيضا لا يحاسبون ؛ لأن الله تعالى علم من حالهم أن ثوابهم يساوي عذابهم ، فلا فائدة في حسابهم . 
فإن قيل : القاضي استدل بهذه الآية أيضا على أن كل من حضر عرصة القيامة فإنه لا بد وأن يكون ثوابه زائدا ، أو يكون عقابه زائدا ، فأما من كان ثوابه مساويا لعقابه فإنه وإن كان جائزا في العقل ، إلا أن هذا النص دل على أنه غير موجود . 
قلنا : الكلام فيه ما سبق من أن السعيد هو الذي يكون من أهل الثواب  ، والشقي هو الذي يكون من أهل العقاب  ، وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث ، والدليل على ذلك : أن أكثر الآيات مشتملة على ذكر المؤمن والكافر فقط ، وليس فيه ذكر ثالث لا يكون لا مؤمنا ولا كافرا ، مع أن القاضي أثبته ، فإذا لم يلزم من عدم ذكر ذلك الثالث عدمه فكذلك لا يلزم من ذكر هذا الثالث عدمه . 
 [ ص: 50 ] المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي  ، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه ، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جهلا ، وذلك محال ، فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا ، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا ، وتقرير هذا الدليل مر في هذا الكتاب مرارا لا تحصى ، وروي عن عمر    - رضي الله عنه - أنه قال : لما نزل قوله تعالى : ( فمنهم شقي وسعيد    ) قلت : يا رسول الله ، فعلى ماذا نعمل ؛ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال : "على شيء قد فرغ منه يا عمر  ، وجفت به الأقلام ، وجرت به الأقدار ، ولكن كل ميسر لما خلق له    " . 
وقالت المعتزلة    : نقل عن الحسن  أنه قال : فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله . 
قلنا : الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات وأيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله ، وإنما سعد بعمله ، ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا . 
واعلم أنه تعالى لما قسم أهل القيامة إلى هذين القسمين ، شرح حال كل واحد منهما فقال : ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : ذكروا في الفرق بين الزفير والشهيق وجوها : 
الوجه الأول : قال الليث    : الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ولم يخرجه ، والشهيق أن يخرج ذلك النفس ، وقال الفراء    : يقال للفرس : إنه عظيم الزفرة ، أي عظيم البطن ، وأقول : إن الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب ، فإذا انحصر الروح قويت الحرارة وعظمت ، وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوي ؛ لأجل أن يستدخل هواء كثيرا باردا ، حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة ؛ فلهذا السبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل البدن ، وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه ، ولما كانت الحرارة الغريزية والروح الحيواني محصورا داخل القلب استولت البرودة على الأعضاء الخارجة ، فربما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهواء الكثير المستنشق ، فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصرا في الصدر ، ويقرب من أن يختنق الإنسان منه ، وحينئذ تجتهد الطبيعة في إخراج ذلك الهواء ، فعلى قياس قول الأطباء : الزفير هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه ، والشهيق هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطبيعة في إخراجه ، وكل واحدة من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم . 
الوجه الثاني : في الفرق بين الزفير والشهيق ، قال بعضهم : الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق ، وأما الشهيق فهو بمنزلة آخر صوت الحمار . 
الوجه الثالث : قال الحسن    : قد ذكرنا أن الزفير عبارة عن الارتفاع ، فنقول : الزفير لهيب جهنم ، يرفعهم بقوته ، حتى إذا وصلوا إلى أعلى درجات جهنم ، وطمعوا في أن يخرجوا منها ، ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ، ويردونهم إلى الدرك الأسفل من جهنم ، وذلك قوله تعالى : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها    ) [السجدة : 2 ] ، فارتفاعهم في النار هو الزفير ، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق . 
الوجه الرابع : قال أبو مسلم    : الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس ،   [ ص: 51 ] والشهيق هو الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن ، وربما تبعهما الغشية ، وربما حصل عقيبه الموت . 
الوجه الخامس : قال  أبو العالية    : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر . 
الوجه السادس : قال قوم : الزفير الصوت الشديد ، والشهيق الصوت الضعيف . 
الوجه السابع : قال  ابن عباس    - رضي الله عنهما - : ( لهم فيها زفير وشهيق    ) يريد ندامة ، ونفسا عالية ، وبكاء لا ينقطع ، وحزنا لا يندفع   . 
الوجه الثامن : الزفير مشعر بالقوة ، والشهيق بالضعف ، على ما قررناه بحسب اللغة . 
إذا عرفت هذا فنقول : لم يبعد أن يكون المراد من الزفير قوة ميلهم إلى عالم الدنيا وإلى اللذات الجسدانية ، والمراد من الشهيق ضعفهم عن الاستسعاد بعالم الروحانيات ، والاستكمال بالأنوار الإلهية والمعارج القدسية ؟ 
				
						
						
