الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في أن المراد بذلك البرهان ما هو ؟ أما المحققون المثبتون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة . بل نقول : إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) [ الأحزاب : 33 ] فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أنه رأى مكتوبا في سقف البيت ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) [ الإسراء : 32 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش ، والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح . فلو أنهم منعوا الناس عنها ، ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ الصف : 2 ، 3 ] وأيضا أن الله تعالى عير اليهود بقوله : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) [ البقرة : 44 ] وما يكون عيبا في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أمورا :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قالوا : إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف : لم فعلت ذلك ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية ، فقال يوسف : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ، فوالله لا أفعل ذلك أبدا ! قالوا : فهذا هو البرهان .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه ما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضا على أصابعه ويقول له : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء ؟ فاستحى منه . قال : وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين . قال سعيد بن جبير : تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : قالوا إنه سمع في الهواء قائلا يقول : يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه ما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج .

                                                                                                                                                                                                                                            ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال : هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد [ ص: 97 ] التنزيل . فيقال له : إنك لا تأتينا البتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها ، فأين هذا من الحجة والدليل ، وأيضا فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز ، وأنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعا عن الزنا بحسب الدلائل الأصلية ، فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز . والعجب أنهم نقلوا أن جروا دخل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبقي هناك بغير علمه ، قالوا : فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوما ، وههنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل عليه السلام ، والعجب أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام ، ولو أن أفسق الخلق وأكفرهم كان مشتغلا بفاحشة فإذا دخل عليه رجل على زي الصالحين استحيا منه وفر وترك ذلك العمل ، وههنا أنه رأى يعقوب عليه السلام عض على أنامله فلم يلتفت إليه ، ثم إن جبريل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع أيضا عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبريل عليه السلام إلى أن يركضه على ظهره . فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين والخذلان في طلب اليقين ، فهذا هو الكلام المخلص في هذه المسألة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في الفرق بين السوء والفحشاء وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن السوء جناية اليد والفحشاء هو الزنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة ، والفحشاء هو الزنا .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( إنه من عبادنا المخلصين ) أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى ، ومن فتح اللام أراد الذين خلصهم الله من الأسواء ، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذين قال الله فيهم : ( إنا أخلصناهم بخالصة ) [ ص : 46 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " المخلصين " بكسر اللام في جميع القرآن والباقون بفتح اللام .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية