( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير  ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون    ) 
قوله تعالى : ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير  ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون    ) . 
وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الوعد والوعيد قال لرسوله : ( فاستقم كما أمرت    )   [ ص: 57 ] وهذه الكلمة كلمة جامعة في كل ما يتعلق بالعقائد والأعمال ، سواء كان مختصا به أو كان متعلقا بتبليغ الوحي وبيان الشرائع ، ولا شك أن البقاء على الاستقامة  الحقيقية مشكل جدا ، وأنا أضرب لذلك مثالا يقرب صعوبة هذا المعنى إلى العقل السليم ، وهو أن الخط المستقيم الذي يفصل بين الظل وبين الضوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض ، إلا أن عين ذلك الخط مما لا يتميز في الحس عن طرفيه ، فإنه إذا قرب طرف الظل من طرف الضوء اشتبه البعض بالبعض في الحس ، فلم يقع الحس على إدراك ذلك الخط بعينه بحيث يتميز عن كل ما سواه . 
إذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية ، فأولها : معرفة الله تعالى ، وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقي العبد مصونا في طرف الإثبات عن التشبيه وفي طرف النفي عن التعطيل في غاية الصعوبة ، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك ، وأيضا فالقوة الغضبية والقوة الشهوانية حصل لكل واحدة منهما طرفا إفراط وتفريط ، وهما مذمومان ، والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين ، والوقوف عليه صعب ، ثم العمل به أصعب ، فثبت أن معرفة الصراط المستقيم في غاية الصعوبة  ، بتقدير معرفته ، فالبقاء عليه والعمل به أصعب ، ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة لا جرم ، قال  ابن عباس    : ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : " شيبتني هود وأخواتها   " ، وعن بعضهم قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم ، فقلت له : روي عنك أنك قلت : شيبتني هود وأخواتها ؟ فقال : "نعم " ، فقلت : وبأي آية ؟ فقال : بقوله : ( فاستقم كما أمرت    ) . 
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة ؛ وذلك لأن القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ ، وجب اعتبار الترتيب فيها ؛ لقوله : ( فاستقم كما أمرت    ) ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل ، والبقر من البقر - وجب اعتبارها ، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به ، وعندي أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس  ؛ لأنه لما دل عموم النص على حكم ، وجب الحكم بمقتضاه ؛ لقوله : ( فاستقم كما أمرت    ) والعمل بالقياس انحراف عنه ، ثم قال : ( ومن تاب معك    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قال الواحدي    : "من" في محل الرفع من وجوه : 
الأول : أن يكون عطفا على الضمير المستتر في قوله : ( فاستقم    ) وأغنى الوصل بالجار عن تأكيده بضمير المتصل في صحة العطف ، أي فاستقم أنت وهم . 
والثاني : أن يكون عطفا على الضمير في أمرت . 
والثالث : أن يكون ابتداء على تقدير : ومن تاب معك فليستقم . 
المسألة الثانية : أن الكافر والفاسق يجب عليهما الرجوع عن الكفر والفسق ، ففي تلك الحالة لا يصح اشتغالهما بالاستقامة ، وأما التائب عن الكفر والفسق  فإنه يصح منه الاشتغال بالاستقامة على مناهج دين الله تعالى ، والبقاء على طريق عبودية الله تعالى . ثم قال : ( ولا تطغوا    ) ومعنى الطغيان أن يجاوز المقدار ، قال  ابن عباس    : يريد : تواضعوا لله تعالى ولا تتكبروا على أحد  ، وقيل : ولا تطغوا في القرآن فتحلوا حرامه وتحرموا حلاله ، وقيل : لا تتجاوزوا ما أمرتم به وحد لكم ، وقيل : ولا تعدلوا عن طريق شكره والتواضع له عند عظم نعمه عليكم ، والأولى دخول الكل فيه ، ثم قال : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا    ) والركون هو السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة ، ونقيضه النفور عنه ، وقرأ العامة بفتح التاء والكاف ، والماضي من هذا ركن كعلم   [ ص: 58 ] وفيه لغة أخرى ركن يركن ، قال الأزهري    : وليست بفصيحة ، قال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم ، وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب ، فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون ، ومعنى قوله : ( فتمسكم النار    ) أي أنكم إن ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون ، ثم قال : ( وما لكم من دون الله من أولياء    ) أي ليس لكم أولياء يخلصونكم من عذاب الله . 
ثم قال : ( ثم لا تنصرون    ) والمراد لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة . 
واعلم أن الله تعالى حكم بأن من ركن إلى الظلمة لا بد وأن تمسه النار  ، وإذا كان كذلك فكيف يكون حال الظالم في نفسه . 
				
						
						
