[ ص: 115 ] ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ) .
قوله تعالى : ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ) .
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) [ إبراهيم : 42 ] وقال في هذه الآية : ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين ، لزم إما كونه غافلا وإما كونه مخلفا في الوعد ، ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلا . وقوله : ( مخلف وعده رسله ) يعني قوله : ( إنا لننصر رسلنا ) [ غافر : 51 ] وقوله : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) [ المجادلة : 21 ] .
فإن قيل : هلا قيل : مخلف رسله وعده ؟ ولم قدم المفعول الثاني على الأول ؟
قلنا : ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا ، ، ثم قال : ( إن الله لا يخلف الميعاد رسله ) ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته ، وقرئ : " مخلف وعد رسله " بجر الرسل ونصب الوعد ، والتقدير : مخلف رسله وعده ، وهذه القراءة في الضعف ، كمن قرأ " قتل أولادهم شركائهم " ثم قال : ( إن الله عزيز ) أي غالب لا يماكر " ذو انتقام " لأوليائه .
( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ) .
اعلم أن الله تعالى لما قال : ( عزيز ذو انتقام ) بين وقت انتقامه فقال : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض ) وعظم من حال ذلك اليوم ؛ لأنه ، وفي الآية مسائل : لا أمر أعظم في العقول والنفوس من تغيير السماوات والأرض
المسألة الأولى : ذكر الزجاج في نصب " يوم " وجهين ، إما على الظرف لانتقام أو على البدل من قوله : ( يوم يأتيهم العذاب ) .
المسألة الثانية : اعلم أن التبديل يحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون الذات باقية وتتبدل صفتها بصفة أخرى .
والثاني : أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى ، والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز أنه يقال : بدلت الحلقة خاتما إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل ، ومنه قوله تعالى : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) [ الفرقان : 70 ] ويقال : بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من [ ص: 116 ] صفة إلى صفة أخرى ، ويقال : تبدل زيد إذا تغيرت أحواله ، وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير ، ومنه قوله : ( بدلناهم جلودا غيرها ) [ النساء : 56 ] وقوله : ( وبدلناهم بجنتيهم جنتين ) [ سبأ : 16 ] إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان :
القول الأول : أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات . قال رضي الله عنهما : هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها ، فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى ، فلا يرى فيها عوج ولا أمت . وروى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبو هريرة . وقوله : ( " يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا " والسماوات ) أي تبدل السماوات غير السماوات ، وهو كقوله عليه السلام : والمعنى : ولا ذو عهد في عهده بكافر ، وتبديل السماوات بانتثار كواكبها وانفطارها ، وتكوير شمسها ، وخسوف قمرها ، وكونها أبوابا ، وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان . " لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده "
والقول الثاني : أن المراد تبديل الذات . قال ابن مسعود : تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة ، فهذا شرح هذين القولين . ومن الناس من رجح القول الأول قال : لأن قوله : ( يوم تبدل الأرض ) المراد هذه الأرض ، والتبدل صفة مضافة إليها ، وعند حصول الصفة لا بد وأن يكون الموصوف موجودا ، فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل ، ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل ، وإلا لامتنع حصول التبدل ، فوجب أن يكون الباقي هو الذات . فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية ، والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون : إن عند قيام القيامة لا يعدم الله الذوات والأجسام ، وإنما يعدم صفاتها وأحوالها .
واعلم أنه لا يبعد أن يقال : المراد من تبديل الأرض والسماوات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم ويجعل السماوات الجنة ، والدليل عليه قوله تعالى : ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ) [ المطففين : 18 ] وقوله : ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ) [ المطففين : 7 ] . والله أعلم .
أما قوله تعالى : ( وبرزوا لله الواحد القهار ) فنقول : أما البروز لله فقد فسرناه في قوله تعالى : ( وبرزوا لله جميعا ) [ إبراهيم : 2 ] وإنما ذكر الواحد القهار ههنا لأن الملك إذا كان لمالك واحد غلاب لا يغالب قهار لا يقهر فلا مستغاث لأحد إلى غيره فكان الأمر في غاية الصعوبة ، ونظيره قوله : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) [ غافر : 16 ] ولما وصف نفسه سبحانه بكونه قهارا بين عجزهم وذلتهم ، فقال : ( وترى المجرمين يومئذ ) .