المسألة الخامسة : قوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78وقرآن الفجر " أجمعوا على أن المراد منه صلاة الصبح ، وانتصابه بالعطف على الصلاة في قوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78أقم الصلاة " والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وفيه فوائد :
الأولى : أن هذه الآية تدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=1566الصلاة لا تتم إلا بالقراءة .
الفائدة الثانية : أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر ، والتقدير أقم قرآن الفجر فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر ، وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر ; لأن الفجر سمي فجرا لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح ، وظاهر الأمر للوجوب فمقتضى هذا اللفظ وجوب
nindex.php?page=treesubj&link=851_855_32783إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه إلا أنا أجمعنا على أن هذا الوجوب غير حاصل ، فوجب أن يبقى الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع من الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تنقل مخالفة الدليل ، فثبت أن هذه الآية تقتضي أن إقامة الفجر في أول الوقت أفضل ، وهذا يدل على صحة مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في أن التغليس أفضل من التنوير ، والله أعلم .
الفائدة الثالثة : أن الفقهاء بينوا أن السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات فالمقصود من قوله " وقرآن الفجر "
nindex.php?page=treesubj&link=857الحث على أن تطويل القراءة في هذه الصلاة مطلوب لأن التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره .
الفائدة الرابعة : أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهودا . قال الجمهور : معناه أن
nindex.php?page=treesubj&link=32782_29746ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة وقبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت : يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى للملائكة اشهدوا أني قد غفرت لهم . وأقول هذا أيضا دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك ما بقيت
[ ص: 24 ] الظلمة فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فثبت أن قوله تعالى : ( إنه كان مشهودا ) دليل قوي على أن التغليس أفضل وعندي في تفسير قوله تعالى : ( إنه كان مشهودا ) احتمال آخر ، وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الاستدلال بها على
nindex.php?page=treesubj&link=33679_29426كمال قدرة الله تعالى أكمل فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم ، فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء ، والظلمة مناسبة للموت والعدم ، والضوء مناسب للحياة والوجود . وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء ومن الموت إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة ومن العدم إلى الوجود ، وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهودا عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة ولذلك فكل من له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور ومن السكون إلى الحركة فإنه يجد في قلبه روحا وراحة ومزيدا في نور المعرفة وقوة اليقين فهذا هو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78إن قرآن الفجر كان مشهودا ) وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بمراده .
وفي الآية احتمال ثالث وهو أن يكون المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78إن قرآن الفجر كان مشهودا ) الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بالجماعة ، ويكون المعنى كونه مشهودا بالجماعة الكثيرة ، ومزيد التحقيق فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات ، فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم ثم بسبب ذلك الاجتماع كأنه ينعكس نور معرفة الله تعالى ، ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى فكذا في هذه الصورة ، ولهذا السبب فإن كل من له ذوق سليم وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونورا وراحة .
الفائدة الخامسة : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ) يحتمل أن يكون السبب في كونه مشهودا هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله وصارت هذه الألواح كألواح سطرت فيها نقوش فاسدة ثم غسلت وأزيلت تلك النقوش عنها ، ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة . فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة الله تعالى وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم الله تعالى انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة ، ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة ، وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها . إذا عرفت هذا فنقول هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس وذلك يدل على المقصود ، واعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=29556_29564أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب
[ ص: 25 ] الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى ، والأنبياء كالأطباء الحاذقين ، والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلا فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر ، إلا أن الطبيب إذا كان مشفقا حاذقا فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه ، إذا عرفت هذا فنقول :
nindex.php?page=treesubj&link=29558_29564مرض حب الدنيا مستول على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس ، وقل من يقبله وينقاد له ، لا جرم [ أن ] الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه فوجب أن يكون مشروعا والله أعلم بأسرار كلامه .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ "
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78وَقُرْآنَ الْفَجْرِ " أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ ، وَانْتِصَابُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78أَقِمِ الصَّلَاةَ " وَالتَّقْدِيرُ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ وَفِيهِ فَوَائِدُ :
الْأُولَى : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=1566الصَّلَاةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقِرَاءَةِ .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْقُرْآنَ إِلَى الْفَجْرِ ، وَالتَّقْدِيرُ أَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْقِرَاءَةُ بِحُصُولِ الْفَجْرِ ، وَفِي أَوَّلِ طُلُوعِ الصُّبْحِ قَدْ حَصَلَ الْفَجْرُ ; لِأَنَّ الْفَجْرَ سُمِّي فَجْرًا لِانْفِجَارِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ عَنْ نُورِ الصَّبَاحِ ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فَمُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ وُجُوبُ
nindex.php?page=treesubj&link=851_855_32783إِقَامَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِهِ إِلَّا أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ غَيْرُ حَاصِلٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى النَّدْبُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِبَارَةٌ عَنْ رُجْحَانِ مَانِعٍ مِنَ التَّرْكِ فَإِذَا مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ تَحْقُّقِ الْوُجُوبِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ الْمَنْعُ مِنَ التَّرْكِ وَأَنْ يَبْقَى أَصْلُ الرُّجْحَانِ حَتَّى تُنْقَلَ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ إِقَامَةَ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ التَّغْلِيسَ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْوِيرِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ الْفُقَهَاءَ بَيَّنُوا أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَطْوَلَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ " وَقُرْآنَ الْفَجْرِ "
nindex.php?page=treesubj&link=857الْحَثُّ عَلَى أَنَّ تَطْوِيلَ الْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مَطْلُوبٌ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ وَصَفَ قُرْآنَ الْفَجْرِ بِكَوْنِهِ مَشْهُودًا . قَالَ الْجُمْهُورُ : مَعْنَاهُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32782_29746مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةَ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ خَلْفَ الْإِمَامِ تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَقَبْلَ أَنْ تَعْرُجَ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صِلَاتِهِ عَرَجَتْ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَكَثَتْ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ ثُمَّ إِنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ إِذَا صَعَدَتْ قَالَتْ : يَا رَبِّ إِنَّا تَرَكْنَا عِبَادَكَ يُصَلُّونَ لَكَ وَتَقُولُ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ رَبَّنَا أَتَيْنَا عِبَادَكَ وَهُمْ يُصْلُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ . وَأَقُولُ هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ التَّغْلِيسَ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْوِيرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا شَرَعَ فِيهَا مِنْ أَوَّلِ الصُّبْحِ فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الظُّلْمَةُ بَاقِيَةٌ فَتَكُونُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ حَاضِرِينَ ثُمَّ إِذَا امْتَدَّتِ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ تَرْتِيلِ الْقِرَاءَةِ وَتَكْثِيرِهَا زَالَتِ الظُّلْمَةُ وَظَهَرَ الضَّوْءُ وَحَضَرَتْ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَحْضُرُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ أَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ التَّنْوِيرِ فَهُنَاكَ مَا بَقِيَتْ
[ ص: 24 ] الظُّلْمَةُ فَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحَدٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : ( إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا ) دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّغْلِيسَ أَفْضَلُ وَعِنْدِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا ) احْتِمَالٌ آخَرُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْحَوَادِثُ الْحَادِثَةُ أَعْظَمَ وَأَكْمَلَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=33679_29426كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْمَلَ فَالْإِنْسَانُ إِذَا شَرَعَ فِي أَدَاءِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَتِ الظُّلْمَةُ الْقَوِيَّةُ بَاقِيَةً فِي الْعَالَمِ ، فَإِذَا امْتَدَّتِ الْقِرَاءَةُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْوَقْتِ يَنْقَلِبُ الْعَالَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى الضَّوْءِ ، وَالظُّلْمَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلْمَوْتِ وَالْعَدَمِ ، وَالضَّوْءُ مُنَاسِبٌ لِلْحَيَاةِ وَالْوُجُودِ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِنْسَانُ لَمَّا قَامَ مِنْ مَنَامِهِ فَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُشَاهِدُ فِي أَثْنَاءِ صِلَاتِهِ انْقِلَابَ كُلِّيَّةِ هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى الضَّوْءِ وَمِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ السُّكُونِ إِلَى الْحَرَكَةِ وَمِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ تَشْهَدُ الْعُقُولُ وَالْأَرْوَاحُ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا التَّقْلِيبِ وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّبْدِيلِ إِلَّا الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ بِالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْقُوَّةِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ وَحِينَئِذٍ يَسْتَنِيرُ الْعَقْلُ بِنُورِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَيَنْفَتِحُ عَلَى الْعَقْلِ وَالرُّوحِ أَبْوَابُ الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مَشْهُودًا عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْمُكَاشَفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ وَلِذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ وَطَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ إِذَا قَامَ مِنْ مَنَامِهِ وَأَدَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَاعْتَبَرَ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْعَالَمِ مِنَ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ إِلَى النُّورِ وَمِنَ السُّكُونِ إِلَى الْحَرَكَةِ فَإِنَّهُ يَجِدُ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَرَاحَةً وَمَزِيدًا فِي نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) وَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْفَجْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيسِ فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ .
وَفِي الْآيَةِ احْتِمَالٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) التَّرْغِيبَ فِي أَنْ تُؤَدَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى كَوْنُهُ مَشْهُودًا بِالْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ ، وَمَزِيدُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي تَصْفِيَةِ الْقَلْبِ وَفِي تَنْوِيرِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ، فَإِذَا حَضَرَ جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ اسْتَنَارَ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ كَأَنَّهُ يَنْعَكِسُ نُورُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَنُورُ طَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى قَلْبِ الْآخَرِ فَتَصِيرُ أَرْوَاحُهُمْ كَالْمَرَايَا الْمُشْرِقَةِ الْمُتَقَابِلَةِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهَا أَنْوَارُ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يَنْعَكِسُ النُّورُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَايَا إِلَى الْأُخْرَى فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَلِهَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ وَأَدَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالْجَمَاعَةِ وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ فُسْحَةً وَنُورًا وَرَاحَةً .
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهِ مَشْهُودًا هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا نَامَ طُولَ اللَّيْلِ فَصَارَ كَالْغَافِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَنْ مُرَاقَبَةِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَزَالَتْ صُورَةُ الْحَوَادِثِ الْجُسْمَانِيَّةِ عَنْ لَوْحِ خَيَالِهِ وَفِكْرِهِ وَعَقْلِهِ وَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْوَاحُ كَأَلْوَاحٍ سُطِّرَتْ فِيهَا نُقُوشٌ فَاسِدَةٌ ثُمَّ غُسِلَتْ وَأُزِيلَتْ تِلْكَ النُّقُوشُ عَنْهَا ، فَفِي أَوَّلِ وَقْتِ الْقِيَامِ مِنَ الْمَنَامِ صَارَتْ أَلْوَاحُ عَقْلِهِ وَفِكْرِهِ وَخَيَالِهِ مُطَهَّرَةً عَنِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلَةِ . فَإِذَا تَسَارَعَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِرَاءَةِ الْكَلَمَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنْزِيهِهِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَقَشَ فِي لَوْحِ عَقْلِهِ وَفِكْرِهِ وَخَيَالِهِ هَذِهِ النُّقُوشُ الطَّاهِرَةُ الْمُقَدَّسَةُ ، ثُمَّ إِنَّ حُصُولَ هَذِهِ النُّقُوشِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْكَامِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ ، وَهِيَ النُّقُوشُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَرَشَّحُ الْمَيْلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَيَضْعُفُ الْمَيْلُ إِلَى الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا شَرَعَ الْإِنْسَانُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِ قِيَامِهِ مِنَ النَّوْمِ عِنْدَ التَّغْلِيسِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29556_29564أَكْثَرَ الْخَلْقِ وَقَعُوا فِي أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَهِيَ حُبُّ
[ ص: 25 ] الدُّنْيَا وَالْحِرْصُ وَالْحَسَدُ وَالتَّفَاخُرُ وَالتَّكَاثُرُ وَهَذِهِ الدُّنْيَا مِثْلُ دَارِ الْمَرْضَى إِذَا كَانَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ الْمَرْضَى ، وَالْأَنْبِيَاءُ كَالْأَطِبَّاءِ الْحَاذِقِينَ ، وَالْمَرِيضُ رُبَّمَا قَدْ قَوِيَ مَرَضُهُ فَلَا يَعُودُ إِلَى الصِّحَّةِ إِلَّا بِمُعَالَجَاتٍ قَوِيَّةٍ وَرُبَّمَا كَانَ الْمَرِيضُ جَاهِلًا فَلَا يَنْقَادُ لِلطَّبِيبِ وَيُخَالِفُهُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ ، إِلَّا أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا كَانَ مُشْفِقًا حَاذِقًا فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْمَرَضِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِزَالَتِهِ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي تَقْلِيلِهِ وَتَخْفِيفِهِ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ :
nindex.php?page=treesubj&link=29558_29564مَرَضُ حُبِّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ عَلَى الْخَلْقِ وَلَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا بِالدَّعْوَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَهَذَا عِلَاجٌ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ ، وَقَلَّ مَنْ يَقْبَلُهُ وَيَنْقَادُ لَهُ ، لَا جَرَمَ [ أَنَّ ] الْأَنْبِيَاءَ اجْتَهَدُوا فِي تَقْلِيلِ هَذَا الْمَرَضِ وَحَمْلِ الْخَلْقِ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ مِمَّا يَنْفَعُ فِي إِزَالَةِ هَذَا الْمَرَضِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كَلَامِهِ .