(
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير النظم وجوه :
الأول : أنه تعالى لما أمر رسوله بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت الفقراء آمنا بك ، قال بعده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وقل الحق من ربكم ) أي قل لهؤلاء : إن هذا
nindex.php?page=treesubj&link=28639_29688الدين الحق إنما أتى من عند الله ، فإن قبلتموه عاد النفع إليكم ، وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ، ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح والحسن والخمول والشهرة .
الوجه الثاني في تقرير النظم : يمكن أن يكون المراد أن الحق ما جاء من عند الله ، والحق الذي جاءني من عنده أن أصبر نفسي مع هؤلاء الفقراء ولا أطردهم ، ولا ألتفت إلى الرؤساء وأهل الدنيا .
والوجه الثالث في تقرير النظم : أن يكون المراد هو أن الحق الذي جاء من عند الله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وأن الله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحا ؛ لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار ، فإن قيل : أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهم على المهم ، فطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلا سقوط حرمتهم وهذا ضرر قليل ، أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر ، وهذا ضرر عظيم ؟ قلنا : أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر فمسلم إلا أن من ترك الإيمان لأجل الحذر من مجالسة الفقراء فإيمانه ليس بإيمان بل هو نفاق قبيح ، فوجب على العاقل أن لا يلتفت إلى إيمان من هذا حاله وصفته .
المسألة الثانية : قالت
المعتزلة قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) صريح في أن
nindex.php?page=treesubj&link=30458_28785_28786الأمر في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية مفوض إلى العبد واختياره ، فمن أنكر ذلك فقد خالف صريح القرآن ، ولقد سألني بعضهم عن هذه الآية فقلت : هذه الآية من أقوى الدلائل على صحة قولنا ، وذلك لأن الآية صريحة في
[ ص: 102 ] أن حصول الإيمان ، وحصول الكفر موقوف على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر وصريح العقل أيضا يدل له ، فإن العقل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وبدون الاختيار له ، إذا عرفت هذا فنقول : حصول ذلك القصد والاختيار إن كان بقصد آخر يتقدمه واختيار آخر يتقدمه لزمه أن يكون كل قصد واختيار مسبوقا بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال ، فوجب انتهاء تلك القصود وتلك الاختيارات إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة عند حصول ذلك القصد الضروري ، والاختيار الضروري يوجب الفعل ، فالإنسان شاء أو لم يشأ إن لم تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعارض لم يترتب الفعل ، وإذا حصلت تلك المشيئة الجازمة شاء أو لم يشأ يجب ترتب الفعل عليه ، فلا حصول المشيئة مترتب على حصول الفعل ، ولا حصول الفعل مترتب على المشيئة ، فالإنسان مضطر في صورة مختار ، ولقد قرر الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبو حامد الغزالي -رحمه الله- هذا المعنى في باب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين ، فقال : فإن قلت : إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت على الفعل ، وإن شئت الترك قدرت على الترك ، فالفعل والترك بي لا بغيري ، وأجاب عنه ، وقال : هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة ، وإن لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل ، بل العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا بسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة ، وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار في هذا المقام فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم ، وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى .
المسألة الثالثة : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) فيه فوائد :
الفائدة الأولى : الآية تدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30458_28785صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والداعي محال .
الفائدة الثانية : أن صيغة الأمر لا لمعنى الطلب في كتاب الله كثيرة ، ثم نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : هذه الصيغة تهديد ووعيد وليست بتخيير .
الفائدة الثالثة : أنها تدل على
nindex.php?page=treesubj&link=30530_28785_28786أنه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين ، بل نفع الإيمان يعود عليهم ، وضرر الكفر يعود عليهم ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) ( الإسراء : 7 ) . واعلم أنه تعالى لما وصف الكفر والإيمان والباطل والحق أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والأعمال الباطلة ، وبذكر الوعد على الإيمان والعمل الصالح ، أما الوعيد فقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29إنا أعتدنا للظالمين نارا ) يقول أعتدنا لمن ظلم نفسه ووضع العبادة في غير موضعها ، والأنفة في غير محلها ، فعندما استحسن بهواه وأنف عن قبول الحق ؛ لأجل أن الذين قبلوه فقراء ومساكين ، فهذا كله ظلم ووضع للشيء في غير موضعه ، فأخبر تعالى : أنه أعد لهؤلاء الأقوام نارا وهي الجحيم ، ثم وصف تعالى تلك النار بصفتين :
الصفة الأولى : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29أحاط بهم سرادقها ) والسرادق هو الحجرة التي تكون حول الفسطاط ، فأثبت
nindex.php?page=treesubj&link=30434للنار شيئا شبيها بذلك يحيط بهم من جميع الجهات ، والمراد : أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار ، بل هي محيطة بهم من كل الجوانب ، وقال بعضهم : المراد من هذا السرادق الدخان الذي وصفه الله في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=30انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ) ( المرسلات : 30 ) وقالوا : هذه الإحاطة بهم إنما تكون قبل دخولهم النار ، فيغشاهم هذا الدخان ويحيط بهم كالسرادق حول الفسطاط .
[ ص: 103 ] nindex.php?page=treesubj&link=30434والصفة الثانية لهذه النار قوله : ( nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل ) قيل في حديث مرفوع : إنه دردي الزيت ، وعن
ابن مسعود -رضي الله عنه - أنه دخل بيت المال وأخرج نفاثة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ، ثم قال : هذا هو المهل ، قال
أبو عبيدة والأخفش : كل شيء أذبته من ذهب أو نحاس أو فضة فهو المهل ، وقيل : إنه الصديد والقيح ، وقيل : إنه ضرب من القطران ، ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة ؛ لأنهم إذا طلبوا ماء للشرب ، فيعطون هذا المهل . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=4تصلى نارا حامية nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=5تسقى من عين آنية ) ( الغاشية :4 - 5) ويحتمل أن يستغيثوا من حر جهنم ، فيطلبوا ماء يصبونه على أنفسهم للتبريد ، فيعطون هذا الماء ، قال تعالى حكاية عنهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=50أن أفيضوا علينا من الماء ) ( الأعراف : 50 ) وقال في آية أخرى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=50سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ) ( إبراهيم : 50 ) فإذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29يغاثوا بماء كالمهل ) وارد على سبيل الاستهزاء ، كقوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29بئس الشراب ) أي أن
nindex.php?page=treesubj&link=30442الماء الذي هو كالمهل بئس الشراب ؛ لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة ، وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغا عظيما ، ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وساءت مرتفقا ) قال قائلون : ساءت النار منزلا ومجتمعا للرفقة ؛ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=30437أهل النار يجتمعون رفقاء كأهل الجنة ، قال تعالى في
nindex.php?page=treesubj&link=30395صفة أهل الجنة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=69وحسن أولئك رفيقا ) ( النساء : 69 ) وأما رفقاء النار فهم الكفار والشياطين ، والمعنى : بئس الرفقاء هؤلاء ، وبئس موضع الترافق النار ، كما أنه نعم الرفقاء أهل الجنة ونعم موضع الرفقاء الجنة ، وقال آخرون : مرتفقا أي متكأ ، وسمي المرفق مرفقا ؛ لأنه يتكأ عليه ، فالاتكاء إنما يكون للاستراحة ، والمرتفق موضع الاستراحة ، والله أعلم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا )
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ قَالُوا إِنْ طَرَدْتَ الْفُقَرَاءَ آمَنَّا بِكَ ، قَالَ بَعْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ) أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ : إِنَّ هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28639_29688الدِّينَ الْحَقَّ إِنَّمَا أَتَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فَإِنْ قَبِلْتُمُوهُ عَادَ النَّفْعُ إِلَيْكُمْ ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهُ عَادَ الضَّرَرُ إِلَيْكُمْ ، وَلَا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ بِالْفَقْرِ وَالْغِنَى وَالْقُبْحِ وَالْحُسْنِ وَالْخُمُولِ وَالشُّهْرَةِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْحَقَّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَنِي مِنْ عِنْدِهِ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ وَلَا أَطْرُدَهُمْ ، وَلَا أَلْتَفِتَ إِلَى الرُّؤَسَاءِ وَأَهْلِ الدُّنْيَا .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي طَرْدِ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِيمَانِ جَمْعٌ مِنَ الْكُفَّارِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْأَهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ ، فَطَرْدُ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ لَا يُوجِبُ إِلَّا سُقُوطَ حُرْمَتِهِمْ وَهَذَا ضَرَرٌ قَلِيلٌ ، أَمَّا عَدَمُ طَرْدِهِمْ فَإِنَّهُ يُوجِبُ بَقَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَهَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ ؟ قُلْنَا : أَمَّا عَدَمُ طَرْدِهِمْ فَإِنَّهُ يُوجِبُ بَقَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ فَمُسَلَّمٌ إِلَّا أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ لِأَجْلِ الْحَذَرِ مِنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ فَإِيمَانُهُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ بَلْ هُوَ نِفَاقٌ قَبِيحٌ ، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى إِيمَانِ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَصِفَتُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30458_28785_28786الْأَمْرَ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ ، فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ ، وَلَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقُلْتُ : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي
[ ص: 102 ] أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ ، وَحُصُولَ الْكُفْرِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُولِ مَشِيئَةِ الْإِيمَانِ وَحُصُولِ مَشِيئَةِ الْكُفْرِ وَصَرِيحُ الْعَقْلِ أَيْضًا يَدُلُّ لَهُ ، فَإِنَّ الْعَقْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ بِدُونِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ وَبِدُونِ الِاخْتِيَارِ لَهُ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : حُصُولُ ذَلِكَ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ إِنْ كَانَ بِقَصْدٍ آخَرَ يَتَقَدَّمُهُ وَاخْتِيَارٍ آخَرَ يَتَقَدَّمُهُ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ مَسْبُوقًا بِقَصْدٍ آخَرَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَهُوَ مُحَالٌ ، فَوَجَبَ انْتِهَاءُ تِلْكَ الْقُصُودِ وَتِلْكَ الِاخْتِيَارَاتِ إِلَى قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَبْدِ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْقَصْدِ الضَّرُورِيِّ ، وَالِاخْتِيَارُ الضَّرُورِيُّ يُوجِبِ الْفِعْلَ ، فَالْإِنْسَانُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ إِنْ لَمْ تَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْجَازِمَةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْمُعَارِضِ لَمْ يَتَرَتَّبِ الْفِعْلُ ، وَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْجَازِمَةُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ يَجِبُ تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ ، فَلَا حُصُولُ الْمَشِيئَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ ، وَلَا حُصُولُ الْفِعْلِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ ، فَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ ، وَلَقَدْ قَرَّرَ الشَّيْخُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- هَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ التَّوَكُّلِ مِنْ كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ ، فَقَالَ : فَإِنْ قُلْتَ : إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي وِجْدَانًا ضَرُورِيًّا أَنِّي إِنْ شِئْتُ الْفِعْلَ قَدَرْتُ عَلَى الْفِعْلِ ، وَإِنْ شِئْتُ التَّرْكَ قَدَرْتُ عَلَى التَّرْكِ ، فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ بِي لَا بِغَيْرِي ، وَأَجَابَ عَنْهُ ، وَقَالَ : هَبْ أَنَّكَ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنْ هَلْ تَجِدُ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ مَشِيئَةَ الْفِعْلِ حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ لَمْ تَحْصُلْ ، بَلِ الْعَقْلُ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ يَشَاءُ الْفِعْلَ لَا بِسَبْقِ مَشِيئَةٍ أُخْرَى عَلَى تِلْكَ الْمَشِيئَةِ ، وَإِذَا شَاءَ الْفِعْلَ وَجَبَ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُكْنَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَحُصُولُ الْمَشِيئَةِ فِي الْقَلْبِ أَمْرٌ لَازِمٌ وَتَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَى حُصُولِ الْمَشِيئَةِ أَيْضًا أَمْرٌ لَازِمٌ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) فِيهِ فَوَائِدُ :
الْفَائِدَةُ الْأُولَى : الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30458_28785صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْفَاعِلِ بِدُونِ الْقَصْدِ وَالدَّاعِي مُحَالٌ .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا لِمَعْنَى الطَّلَبِ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : هَذِهِ الصِّيغَةُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ وَلَيْسَتْ بِتَخْيِيرٍ .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=30530_28785_28786أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَسْتَضِرُّ بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ ، بَلْ نَفْعُ الْإِيمَانِ يَعُودُ عَلَيْهِمْ ، وَضَرَرُ الْكُفْرِ يَعُودُ عَلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) ( الْإِسْرَاءِ : 7 ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْبَاطِلَ وَالْحَقَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ ، وَبِذِكْرِ الْوَعْدِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، أَمَّا الْوَعِيدُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا ) يَقُولُ أَعْتَدْنَا لِمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَوَضَعَ الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، وَالْأَنَفَةَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا ، فَعِنْدَمَا اسْتَحْسَنَ بِهَوَاهُ وَأَنِفَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ ؛ لِأَجْلِ أَنَّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فُقَرَاءُ وَمَسَاكِينُ ، فَهَذَا كُلُّهُ ظُلْمٌ وَوَضْعٌ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى : أَنَّهُ أَعَدَّ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ نَارًا وَهِيَ الْجَحِيمُ ، ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى تِلْكَ النَّارَ بِصِفَتَيْنِ :
الصِّفَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) وَالسُّرَادِقُ هُوَ الْحُجْرَةُ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ ، فَأَثْبَتَ
nindex.php?page=treesubj&link=30434لِلنَّارِ شَيْئًا شَبِيهًا بِذَلِكَ يُحِيطُ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ ، وَالْمُرَادُ : أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا فُرْجَةَ يَتَفَرَّجُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ غَيْرِ النَّارِ ، بَلْ هِيَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّرَادِقِ الدُّخَّانُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=30انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ) ( الْمُرْسَلَاتِ : 30 ) وَقَالُوا : هَذِهِ الْإِحَاطَةُ بِهِمْ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ ، فَيَغْشَاهُمْ هَذَا الدُّخَانُ وَيُحِيطُ بِهِمْ كَالسُّرَادِقِ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ .
[ ص: 103 ] nindex.php?page=treesubj&link=30434وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِهَذِهِ النَّارِ قَوْلُهُ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قِيلَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ : إِنَّهُ دَرْدِيُّ الزَّيْتِ ، وَعَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتَ الْمَالِ وَأَخْرَجَ نُفَاثَةً كَانَتْ فِيهِ وَأَوْقَدَ عَلَيْهَا النَّارَ حَتَّى تَلَأْلَأَتْ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا هُوَ الْمُهْلُ ، قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ : كُلُّ شَيْءٍ أَذَبْتَهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ فِضَّةٍ فَهُوَ الْمُهْلُ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ الصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ ، وَقِيلَ : إِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْقَطْرَانِ ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الِاسْتِغَاثَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا طَلَبُوا مَاءً لِلشُّرْبِ ، فَيُعْطَوْنَ هَذَا الْمُهْلَ . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=4تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=5تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) ( الْغَاشِيَةِ :4 - 5) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْتَغِيثُوا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ ، فَيَطْلُبُوا مَاءً يَصُبُّونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِلتَّبْرِيدِ ، فَيُعْطَوْنَ هَذَا الْمَاءَ ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=50أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ ) ( الْأَعْرَافِ : 50 ) وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=50سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) ( إِبْرَاهِيمَ : 50 ) فَإِذَا اسْتَغَاثُوا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ صُبَّ عَلَيْهِمُ الْقَطْرَانُ الَّذِي يَعُمُّ كُلَّ أَبْدَانِهِمْ كَالْقَمِيصِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ ، كَقَوْلِهِ :
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29بِئْسَ الشَّرَابُ ) أَيْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30442الْمَاءَ الَّذِي هُوَ كَالْمُهْلِ بِئْسَ الشَّرَابُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِشُرْبِ الشَّرَابِ تَسْكِينُ الْحَرَارَةِ ، وَهَذَا يَبْلُغُ فِي احْتِرَاقِ الْأَجْسَامِ مَبْلَغًا عَظِيمًا ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=29وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) قَالَ قَائِلُونَ : سَاءَتِ النَّارُ مَنْزِلًا وَمُجْتَمَعًا لِلرُّفْقَةِ ؛ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30437أَهْلَ النَّارِ يَجْتَمِعُونَ رُفَقَاءَ كَأَهْلِ الْجَنَّةِ ، قَالَ تَعَالَى فِي
nindex.php?page=treesubj&link=30395صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=69وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) ( النِّسَاءِ : 69 ) وَأَمَّا رُفَقَاءُ النَّارِ فَهُمُ الْكُفَّارُ وَالشَّيَاطِينُ ، وَالْمَعْنَى : بِئْسَ الرُّفَقَاءُ هَؤُلَاءِ ، وَبِئْسَ مَوْضِعُ التَّرَافُقِ النَّارُ ، كَمَا أَنَّهُ نِعْمَ الرُّفَقَاءُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَنِعْمَ مَوْضِعُ الرُّفَقَاءِ الْجَنَّةُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : مُرْتَفَقًا أَيْ مُتَّكَأً ، وَسُمِّيَ الْمِرْفَقُ مِرْفَقًا ؛ لِأَنَّهُ يُتَّكَأُ عَلَيْهِ ، فَالِاتْكَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلِاسْتِرَاحَةِ ، وَالْمُرْتَفَقُ مَوْضِعُ الِاسْتِرَاحَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .