(
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=66قال له
موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=67قال إنك لن تستطيع معي صبرا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=68وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=69قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=70قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65nindex.php?page=treesubj&link=28989_31935_28748_32003فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=66قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=67قال إنك لن تستطيع معي صبرا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=68وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=69قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=70قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65فوجدا عبدا من عبادنا ) فيه بحثان :
البحث الأول : قال الأكثرون : إن ذلك العبد كان نبيا ، واحتجوا عليه بوجوه :
الأول : أنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه ) والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=32أهم يقسمون رحمة ربك ) ( الزخرف : 32 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=86وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) ( القصص : 86 ) والمراد من هذه الرحمة النبوة ، ولقائل أن يقول : نسلم أن النبوة رحمة ، أما لا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة .
الحجة الثانية : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65وعلمناه من لدنا علما ) وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة تعليم معلم ، ولا إرشاد مرشد ، وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله ، وهذا الاستدلال ضعيف ؛ لأن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله ، وذلك لا يدل على النبوة .
الحجة الثالثة : أن
موسى عليه السلام قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=66هل أتبعك على أن تعلمني ) والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيا ، أما في غير تلك العلوم فلا .
[ ص: 127 ]
الحجة الرابعة : أن ذلك العبد أظهر الترفع على
موسى حيث قال له : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=68وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) وأما
موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=69ولا أعصي لك أمرا ) وكل ذلك يدل على أن ذلك العالم كان فوق
موسى ، ومن لا يكون نبيا لا يكون فوق النبي ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها ، فلم قلتم : إن ذلك لا يجوز ، فإن قالوا : لأنه يوجب التنفير .
قلنا : فإرسال
موسى إلى التعلم منه بعد إنزال الله عليه التوراة وتكليمه بغير واسطة يوجب التنفير ، فإن قالوا : إن هذا لا يوجب التنفير ، فكذا القول فيما ذكروه .
الحجة الخامسة : احتج
الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=82وما فعلته عن أمري ) ومعناه : فعلته بوحي الله ، وهو يدل على النبوة ، وهذا أيضا دليل ضعيف ، وضعفه ظاهر .
الحجة السادسة : ما روي أن
موسى عليه السلام لما وصل إليه قال : السلام عليك ، فقال : وعليك السلام يا نبي
بني إسرائيل ، فقال
موسى عليه السلام : من عرفك هذا ؟ قال : الذي بعثك إلي ، قالوا : وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي ، والوحي لا يكون إلا مع النبوة ، ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات ؟ .
البحث الثاني : قال الأكثرون : إن ذلك العبد هو
nindex.php?page=treesubj&link=31933الخضر ، وقالوا : إنما سمي
بالخضر ؛ لأنه كان لا يقف موقفا إلا اخضر ذلك الموضع ، قال
الجبائي : قد ظهرت الرواية أن
الخضر إنما بعث بعد
موسى عليه السلام من
بني إسرائيل ، فإن صح ذلك لم يجز أن يكون هذا العبد هو
الخضر ، وأيضا فبتقدير أن يكون هذا العبد هو
الخضر ، وقد ثبت أنه يجب أن يكون نبيا ، فهذا يقتضي أن يكون
الخضر أعلى شأنا من
موسى صاحب التوراة ؛ لأنا قد بينا أن الألفاظ المذكورة في هذه الآيات تدل على أن ذلك كان يترفع على
موسى ، وكان
موسى يظهر التواضع له إلا أن كون
الخضر أعلى شأنا من
موسى غير جائز ؛ لأن
الخضر إما أن يقال : إنه كان من
بني إسرائيل أو ما كان من
بني إسرائيل ، فإن قلنا : إنه كان من
بني إسرائيل فقد كان من أمة
موسى لقوله تعالى حكاية عن
موسى عليه السلام أنه قال
لفرعون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=17أرسل معنا بني إسرائيل ) ( الشعراء : 17 ) والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي ، وإن قلنا : إنه ما كان من
بني إسرائيل لم يجز أن يكون أفضل من
موسى لقوله تعالى لبني إسرائيل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=47وأني فضلتكم على العالمين ) ( البقرة : 47 ) وهذه الكلمات تقوي قول من يقول : إن
موسى هذا غير
موسى صاحب التوراة .
المسألة الثالثة : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65وعلمناه من لدنا علما ) يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة ،
والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية ، وللشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية ، وأقول : تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول : إذا أدركنا أمرا من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق ، فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور ، وكل واحد من هذين القسمين ؛ فإما أن يكون نظريا حاصلا من غير كسب وطلب ، وإما أن يكون كسبيا ، أما العلوم النظرية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب ، مثل تصورنا الألم واللذة ، والوجود والعدم ، ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأن الواحد نصف الاثنين . وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء ، بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم ، وهذا الطريق
[ ص: 128 ] على قسمين :
أحدهما : أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى استعلام المجهولات ، وهذا الطريق هو المسمى بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل والتروي والاستدلال ، وهذا النوع من تحصيل العلوم هو الطريق الذي لا يتم إلا بالجهد والطلب .
والنوع الثاني : أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات في أن تصير القوى الحسية والخيالية ضعيفة ، فإذا ضعفت قويت القوة العقلية ، وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل ، وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمل ، وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية ، إذا عرفت هذا فنقول : جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية فقد تكون النفس نفسا مشرقة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية ، فلا جرم كانت أبدا شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسية والأنوار الإلهية ، فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام ، وهذا هو المراد بالعلم اللدني ، وهو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) وأما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر وإشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه ، والقسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية ، وكالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية ، وكالروح الأعظم بالنسبة إلى الأرواح الجزئية ، فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ ، ووراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=66قَالَ لَهُ
مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=67قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=68وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=69قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=70قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65nindex.php?page=treesubj&link=28989_31935_28748_32003فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=66قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=67قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=68وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=69قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=70قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا )
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ) فِيهِ بَحْثَانِ :
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ : قَالَ الْأَكْثَرُونَ : إِنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ كَانَ نَبِيًّا ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ ) وَالرَّحْمَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=32أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ) ( الزُّخْرُفِ : 32 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=86وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) ( الْقَصَصِ : 86 ) وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ النُّبُوَّةُ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : نُسَلِّمُ أَنَّ النُّبُوَّةَ رَحْمَةٌ ، أَمَّا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ رَحْمَةٍ نُبُوَّةً .
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَهُ لَا بِوَاسِطَةِ تَعْلِيمِ مُعَلِّمٍ ، وَلَا إِرْشَادِ مُرْشِدٍ ، وَكُلُّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ لَا بِوَاسِطَةِ الْبَشَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا يَعْلَمُ الْأُمُورَ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ تَحْصُلُ ابْتِدَاءً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ .
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=66هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي ) وَالنَّبِيُّ لَا يَتَّبِعُ غَيْرَ النَّبِيِّ فِي التَّعْلِيمِ ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَتَّبِعُ غَيْرَ النَّبِيِّ فِي الْعُلُومِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا صَارَ نَبِيًّا ، أَمَّا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْعُلُومِ فَلَا .
[ ص: 127 ]
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ أَظْهَرَ التَّرَفُّعَ عَلَى
مُوسَى حَيْثُ قَالَ لَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=68وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) وَأَمَّا
مُوسَى فَإِنَّهُ أَظْهَرَ التَّوَاضُعَ لَهُ حَيْثُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=69وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَالِمَ كَانَ فَوْقَ
مُوسَى ، وَمَنْ لَا يَكُونُ نَبِيًّا لَا يَكُونُ فَوْقَ النَّبِيِّ ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ النَّبِيِّ فَوْقَ النَّبِيِّ فِي عُلُومٍ لَا تَتَوَقَّفُ نُبُوَّتُهُ عَلَيْهَا ، فَلِمَ قُلْتُمْ : إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَإِنْ قَالُوا : لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ .
قُلْنَا : فَإِرْسَالُ
مُوسَى إِلَى التَّعَلُّمِ مِنْهُ بَعْدَ إِنْزَالِ اللَّهِ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ وَتَكْلِيمِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ ، فَإِنْ قَالُوا : إِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ التَّنْفِيرَ ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا ذَكَرُوهُ .
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ : احْتَجَّ
الْأَصَمُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=82وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) وَمَعْنَاهُ : فَعَلْتُهُ بِوَحْيِ اللَّهِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ ، وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ ، وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ .
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ : مَا رُوِيَ أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ ، فَقَالَ : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا نَبِيَّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَقَالَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : مَنْ عَرَّفَكَ هَذَا ؟ قَالَ : الَّذِي بَعَثَكَ إِلَيَّ ، قَالُوا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ ، وَالْوَحْيُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ النُّبُوَّةِ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ وَالْإِلْهَامَاتِ ؟ .
الْبَحْثُ الثَّانِي : قَالَ الْأَكْثَرُونَ : إِنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=31933الْخَضِرُ ، وَقَالُوا : إِنَّمَا سُمِّيَ
بِالْخَضِرِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَقِفُ مَوْقِفًا إِلَّا اخْضَرَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ ، قَالَ
الْجُبَّائِيُّ : قَدْ ظَهَرَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ
الْخَضِرَ إِنَّمَا بُعِثَ بَعْدَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَإِنَّ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَبْدُ هُوَ
الْخَضِرُ ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَبْدُ هُوَ
الْخَضِرُ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
الْخَضِرُ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ
مُوسَى صَاحِبِ التَّوْرَاةِ ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَرَفَّعُ عَلَى
مُوسَى ، وَكَانَ
مُوسَى يُظْهِرُ التَّوَاضُعَ لَهُ إِلَّا أَنَّ كَوْنَ
الْخَضِرِ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ
مُوسَى غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِأَنَّ
الْخَضِرَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ كَانَ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مَا كَانَ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ كَانَ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَدْ كَانَ مِنْ أُمَّةِ
مُوسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ
لِفِرْعَوْنَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=17أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشُّعَرَاءِ : 17 ) وَالْأُمَّةُ لَا تَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنَ النَّبِيِّ ، وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ
مُوسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=47وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( الْبَقَرَةِ : 47 ) وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ تُقَوِّي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ
مُوسَى هَذَا غَيْرُ
مُوسَى صَاحِبِ التَّوْرَاةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْعُلُومَ حَصَلَتْ عِنْدَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ ،
وَالصُّوفِيَّةُ سَمَّوُا الْعُلُومَ الْحَاصِلَةَ بِطَرِيقِ الْمُكَاشَفَاتِ الْعُلُومَ اللَّدُنِّيَّةَ ، وَلِلشَّيْخِ
nindex.php?page=showalam&ids=14847أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ رِسَالَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ ، وَأَقُولُ : تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ : إِذَا أَدْرَكْنَا أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ وَتَصَوَّرْنَا حَقِيقَةً مِنَ الْحَقَائِقِ ، فَإِمَّا أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ وَهُوَ التَّصْدِيقُ أَوْ لَا نَحْكُمَ وَهُوَ التَّصَوُّرُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا حَاصِلًا مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَسْبِيًّا ، أَمَّا الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ فَهِيَ تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ ، مِثْلُ تَصَوُّرِنَا الْأَلَمَ وَاللَّذَّةَ ، وَالْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، وَمِثْلُ تَصْدِيقِنَا بِأَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ . وَأَمَّا الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ حَاصِلَةً فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ ابْتِدَاءً ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اكْتِسَابِ تِلْكَ الْعُلُومِ ، وَهَذَا الطَّرِيقُ
[ ص: 128 ] عَلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ تَرَكُّبَ تِلْكَ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ حَتَّى يَتَوَصَّلَ بِتَرَكُّبِهَا إِلَى اسْتِعْلَامِ الْمَجْهُولَاتِ ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّرَوِّي وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْجُهْدِ وَالطَّلَبِ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ يَسْعَى الْإِنْسَانُ بِوَاسِطَةِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ فِي أَنْ تَصِيرَ الْقُوَى الْحِسِّيَّةُ وَالْخَيَالِيَّةُ ضَعِيفَةً ، فَإِذَا ضَعُفَتْ قَوِيَتِ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ ، وَأَشْرَقَتِ الْأَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةُ فِي جَوْهَرِ الْعَقْلِ ، وَحَصَلَتِ الْمَعَارِفُ وَكَمُلَتِ الْعُلُومُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ سَعْيٍ وَطَلَبٍ فِي التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : جَوَاهِرُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ النَّفْسُ نَفْسًا مُشْرِقَةً نُورَانِيَّةً إِلَهِيَّةً عُلْوِيَّةً قَلِيلَةَ التَّعَلُّقِ بِالْجَوَاذِبِ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّوَازِعِ الْجُسْمَانِيَّةِ ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ أَبَدًا شَدِيدَةَ الِاسْتِعْدَادِ لِقَبُولِ الْجَلَايَا الْقُدُسِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ ، فَلَا جَرَمَ فَاضَتْ عَلَيْهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ تِلْكَ الْأَنْوَارُ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=65آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) وَأَمَّا النَّفْسُ الَّتِي مَا بَلَغَتْ فِي صَفَاءِ الْجَوْهَرِ وَإِشْرَاقِ الْعُنْصُرِ فَهِيَ النَّفْسُ النَّاقِصَةُ الْبَلِيدَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُهَا تَحْصِيلُ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ إِلَّا بِمُتَوَسِّطٍ بَشَرِيٍّ يُحْتَالُ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَعَلُّمِهِ ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي كَالشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَضْوَاءِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَكَالْبَحْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَدَاوِلِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَكَالرُّوحِ الْأَعْظَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْوَاحِ الْجُزْئِيَّةِ ، فَهَذَا تَنْبِيهٌ قَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ ، وَوَرَاءَهُ أَسْرَارٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ .