(
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين )
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) .
في الترتيب وجوه :
أحدها : إن الله تعالى لما بين الرسالة ، وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمنا مسلما ذكر أصلا آخر وهو الحشر .
وثانيها : وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=11فبشره بمغفرة ) ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا ، فقال : إن لم ير في الدنيا
nindex.php?page=treesubj&link=33679_29468_30337فالله يحيي الموتى ويجزي المنذرين ويجزي المبشرين .
وثالثها : أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده ، وهو إحياء الموتى ، وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إنا نحن ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مبتدأ وخبرا كقول القائل :
أنا أبو النجم وشعري شعري
ومثل هذا يقال عند الشهرة العظيمة ، وذلك لأن من لا يعرف يقال له : من أنت ؟ فيقول : أنا ابن فلان فيعرف ، ومن يكون مشهورا إذا قيل له : من أنت ؟ يقول أنا ، أي لا معرف لي أظهر من نفسي فقال : إنا نحن معروفون بأوصاف الكمال ، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى .
وثانيهما : أن يكون الخبر (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12نحيي ) كأنه قال : إنا نحيي الموتى ، و (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12نحن ) يكون تأكيدا والأول أولى .
المسألة الثانية : (إنا نحن) فيه إشارة إلى التوحيد ؛ لأن الاشتراك يوجب التمييز بغير النفس فإن زيدا إذا شاركه غيره في الاسم ، فلو قال : أنا زيد لم يحصل التعريف التام لأن للسامع أن يقول : أيما زيد ؟ فيقول ابن عمرو ولو كان هناك زيد آخر أبوه عمرو لا يكفي قوله : ابن عمرو ، فلما قال الله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إنا نحن ) أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى نقول : إنا كذا فنمتاز ، وحينئذ تصير الأصول الثلاثة مذكورة ؛ الرسالة والتوحيد والحشر .
المسألة الثالثة : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12ونكتب ما قدموا ) فيه وجوه :
أحدها : المراد ما قدموا وأخروا ، فاكتفى بذكر أحدهما كما في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81سرابيل تقيكم الحر ) ( النحل : 81 ) والمراد والبرد أيضا .
وثانيها : المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة ، وهو كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=36بما قدمت أيديهم ) ( الروم : 36 ) أي بما قدمت في الوجود على غيره وأوجدته .
وثالثها : نكتب نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارها أي أعمالهم على هذا الوجه .
المسألة الرابعة : وآثارهم فيه وجوه :
الأول : آثارهم أقدامهم ، فإن جماعة من أصحابه بعدت دورهم عن المساجد ، فأرادوا النقلة ، فقال صلى الله عليه وسلم : "
إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليه فالزموا بيوتكم " .
والثاني : هي السنن الحسنة ، كالكتب المصنفة والقناطر المبنية ، والحبائس الدارة ، والسنن السيئة كالظلامات المستمرة التي
[ ص: 44 ] وضعها ظالم والكتب المضلة ، وآلات الملاهي وأدوات المناهي المعمولة الباقية ، وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013595من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجر العامل شيء ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها فما قدموا هو أفعالهم ، وآثارهم أفعال الشاكرين فبشرهم حيث يؤاخذون بها ويؤجرون عليها .
والثالث : ما ذكرنا أن الآثار الأعمال وما قدموا النيات ، فإن النية قبل العمل .
المسألة الخامسة : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال : نحيي ونكتب ، ولم يقل : نكتب ما قدموا ونحييهم ، نقول : الكتابة معظمة لأمر الإحياء ؛ لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم ، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياء وإعادة لا يبقى لها أثر أصلا فالإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره ، فلهذا قدم الإحياء ولأنه تعالى لما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إنا نحن ) وذلك يفيد العظمة والجبروت ، والإحياء عظيم يختص بالله والكتابة دونه فقرن بالتعريف الأمر العظيم وذكر ما يعظم ذلك العظيم ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) يحتمل وجوها :
أحدها : أن يكون ذلك بيانا لكون ما قدموا وآثارهم أمرا مكتوبا عليهم لا يبدل ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=30452_28726القلم جف بما هو كائن ، فلما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12ونكتب ما قدموا ) بين أن قبل ذلك كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ، ثم إذا فعلوه كتب عليهم أنهم فعلوه .
وثانيها : أن يكون ذلك مؤكدا لمعنى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12ونكتب ) لأن من يكتب شيئا في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال : نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين ، وهذا كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ) (طه : 52 ) .
وثالثها : أن يكون ذلك تعميما بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه ، بل
nindex.php?page=treesubj&link=28781_28782كل شيء محصى في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئا من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله ولا يفوته ، وهذا كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=52وكل شيء فعلوه في الزبر nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=53وكل صغير وكبير مستطر ) ( القمر : 52 ) يعني ليس ما في الزبر منحصرا فيما فعلوه بل كل شيء فعلوه مكتوب ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12أحصيناه ) أبلغ من كتبناه لأن من كتب شيئا مفرقا يحتاج إلى جمع عدده ، فقال : هو محصى فيه وسمي الكتاب إماما ؛ لأن الملائكة يتبعونه فما كتب فيه من أجل ورزق وإحياء وإماتة اتبعوه ، وقيل : هو اللوح المحفوظ ، وإمام جاء جمعا في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=71يوم ندعوا كل أناس بإمامهم ) ( الإسراء : 71 ) أي بأئمتهم ؛ وحينئذ فإمام إذا كان فردا فهو ككتاب وحجاب ، وإذا كان جمعا فهو كجبال وحبال ، والمبين هو المظهر للأمور لكونه مظهرا للملائكة ما يفعلون وللناس ما يفعل بهم ، وهو الفارق يفرق بين أحوال الخلق ، فيجعل فريقا في الجنة وفريقا في السعير .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ )
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) .
فِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الرِّسَالَةَ ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْمُكَلَّفُ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا ذَكَرَ أَصْلًا آخَرَ وَهُوَ الْحَشْرُ .
وَثَانِيهَا : وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْذَارَ وَالْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=11فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ ) وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِكَمَالِهِ فِي الدُّنْيَا ، فَقَالَ : إِنْ لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا
nindex.php?page=treesubj&link=33679_29468_30337فَاللَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَجْزِي الْمُنْذِرِينَ وَيَجْزِي الْمُبَشِّرِينَ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ خَشْيَةَ الرَّحْمَنِ بِالْغَيْبِ ذَكَرَ مَا يُؤَكِّدُهُ ، وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى ، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إِنَّا نَحْنُ ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ :
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ عِنْدَ الشُّهْرَةِ الْعَظِيمَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ يُقَالُ لَهُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا ابْنُ فُلَانٍ فَيُعْرَفُ ، وَمَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا إِذَا قِيلَ لَهُ : مَنْ أَنْتَ ؟ يَقُولُ أَنَا ، أَيْ لَا مُعَرِّفَ لِي أَظْهَرُ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ : إِنَّا نَحْنُ مَعْرُوفُونَ بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ ، وَإِذَا عُرِّفْنَا بِأَنْفُسِنَا فَلَا تُنْكِرُ قُدْرَتَنَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى .
وَثَانِيهِمَا : أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12نُحْيِي ) كَأَنَّهُ قَالَ : إِنَّا نُحْيِي الْمَوْتَى ، وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12نَحْنُ ) يَكُونُ تَأْكِيدًا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : (إِنَّا نَحْنُ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يُوجِبُ التَّمْيِيزَ بِغَيْرِ النَّفْسِ فَإِنَّ زَيْدًا إِذَا شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي الِاسْمِ ، فَلَوْ قَالَ : أَنَا زَيْدٌ لَمْ يَحْصُلِ التَّعْرِيفُ التَّامُّ لِأَنَّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ : أَيُّمَا زَيْدٍ ؟ فَيَقُولُ ابْنُ عَمْرٍو وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ زَيْدٌ آخَرُ أَبُوهُ عَمْرٌو لَا يَكْفِي قَوْلُهُ : ابْنُ عَمْرٍو ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إِنَّا نَحْنُ ) أَيْ لَيْسَ غَيْرُنَا أَحَدٌ يُشَارِكُنَا حَتَّى نَقُولَ : إِنَّا كَذَا فَنَمْتَازُ ، وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةً ؛ الرِّسَالَةُ وَالتَّوْحِيدُ وَالْحَشْرُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ) فِيهِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : الْمُرَادُ مَا قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) ( النَّحْلِ : 81 ) وَالْمُرَادُ وَالْبَرْدَ أَيْضًا .
وَثَانِيهَا : الْمَعْنَى مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ صَالِحَةً كَانَتْ أَوْ فَاسِدَةً ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=36بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) ( الرُّومِ : 36 ) أَيْ بِمَا قَدَّمَتْ فِي الْوُجُودِ عَلَى غَيْرِهِ وَأَوْجَدَتْهُ .
وَثَالِثُهَا : نَكْتُبُ نِيَّاتِهِمْ فَإِنَّهَا قَبْلَ الْأَعْمَالِ وَآثَارَهَا أَيْ أَعْمَالَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَآثَارُهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : آثَارُهُمْ أَقْدَامُهُمْ ، فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بَعُدَتْ دُورُهُمْ عَنِ الْمَسَاجِدِ ، فَأَرَادُوا النُّقْلَةَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
إِنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ خُطُوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ فَالْزَمُوا بُيُوتَكُمْ " .
وَالثَّانِي : هِيَ السُّنَنُ الْحَسَنَةُ ، كَالْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ وَالْقَنَاطِرِ الْمَبْنِيَّةِ ، وَالْحَبَائِسِ الدَّارَّةِ ، وَالسُّنَنُ السَّيِّئَةُ كَالظِّلَامَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي
[ ص: 44 ] وَضَعَهَا ظَالِمٌ وَالْكُتُبِ الْمُضِلَّةِ ، وَآلَاتِ الْمَلَاهِي وَأَدَوَاتِ الْمَنَاهِي الْمَعْمُولَةِ الْبَاقِيَةِ ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013595مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ شَيْءٌ ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا فَمَا قَدَّمُوا هُوَ أَفْعَالُهُمْ ، وَآثَارُهُمْ أَفْعَالُ الشَّاكِرِينَ فَبَشِّرْهُمْ حَيْثُ يُؤَاخَذُونَ بِهَا وَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا .
وَالثَّالِثُ : مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ الْأَعْمَالُ وَمَا قَدَّمُوا النِّيَّاتِ ، فَإِنَّ النِّيَّةَ قَبْلَ الْعَمَلِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : الْكِتَابَةُ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ فَكَيْفَ أَخَّرَ فِي الذِّكْرِ حَيْثُ قَالَ : نُحْيِي وَنَكْتُبُ ، وَلَمْ يَقُلْ : نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَنُحْيِيهِمْ ، نَقُولُ : الْكِتَابَةُ مُعَظِّمَةٌ لِأَمْرِ الْإِحْيَاءِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِسَابِ لَا يُعَظَّمُ ، وَالْكِتَابَةُ فِي نَفْسِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ إِحْيَاءً وَإِعَادَةً لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ أَصْلًا فَالْإِحْيَاءُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ وَالْكِتَابَةُ مُؤَكِّدَةٌ مُعَظِّمَةٌ لِأَمْرِهِ ، فَلِهَذَا قُدِّمَ الْإِحْيَاءُ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12إِنَّا نَحْنُ ) وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعَظَمَةَ وَالْجَبَرُوتَ ، وَالْإِحْيَاءُ عَظِيمٌ يَخْتَصُّ بِاللَّهِ وَالْكِتَابَةُ دُونَهُ فَقَرَنَ بِالتَّعْرِيفِ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ وَذَكَرَ مَا يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْعَظِيمَ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) يَحْتَمِلُ وُجُوهًا :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِكَوْنِ مَا قَدَّمُوا وَآثَارُهُمْ أَمْرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ لَا يُبَدَّلُ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30452_28726الْقَلَمَ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَمَّا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ) بَيَّنَ أَنَّ قَبْلَ ذَلِكَ كِتَابَةً أُخْرَى فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ إِذَا فَعَلُوهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ .
وَثَانِيهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12وَنَكْتُبُ ) لِأَنَّ مَنْ يَكْتُبُ شَيْئًا فِي أَوْرَاقٍ وَيَرْمِيهَا قَدْ لَا يَجِدُهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ فَقَالَ : نَكْتُبُ وَنَحْفَظُ ذَلِكَ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ) (طه : 52 ) .
وَثَالِثُهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْمِيمًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَلَيْسَتِ الْكِتَابَةُ مُقْتَصِرَةً عَلَيْهِ ، بَلْ
nindex.php?page=treesubj&link=28781_28782كُلُّ شَيْءٍ مُحْصًى فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَلَا يَفُوتُهُ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=52وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=53وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) ( الْقَمَرِ : 52 ) يَعْنِي لَيْسَ مَا فِي الزُّبُرِ مُنْحَصِرًا فِيمَا فَعَلُوهُ بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مَكْتُوبٌ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=12أحْصَيْنَاهُ ) أَبْلَغُ مِنْ كَتَبْنَاهُ لِأَنَّ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا مُفَرَّقًا يَحْتَاجُ إِلَى جَمْعِ عَدَدِهِ ، فَقَالَ : هُوَ مُحْصًى فِيهِ وَسُمِّيَ الْكِتَابُ إِمَامًا ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَتَّبِعُونَهُ فَمَا كُتِبَ فِيهِ مِنْ أَجَلٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ اتَّبَعُوهُ ، وَقِيلَ : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ ، وَإِمَامٌ جَاءَ جَمْعًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=71يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) ( الْإِسْرَاءِ : 71 ) أَيْ بِأَئِمَّتِهِمْ ؛ وَحِينَئِذٍ فَإِمَامٌ إِذَا كَانَ فَرْدًا فَهُوَ كَكِتَابٍ وَحِجَابٍ ، وَإِذَا كَانَ جَمْعًا فَهُوَ كَجِبَالٍ وَحِبَالٍ ، وَالْمُبِينُ هُوَ الْمُظْهِرُ لِلْأُمُورِ لِكَوْنِهِ مُظْهِرًا لِلْمَلَائِكَةِ مَا يَفْعَلُونَ وَلِلنَّاسِ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ ، وَهُوَ الْفَارِقُ يَفْرِقُ بَيْنَ أَحْوَالِ الْخَلْقِ ، فَيَجْعَلُ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ .