الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وأما الاحتمال الثالث : وهو أن هذه القصة على وجه لا يلزم إلحاق الكبيرة والصغيرة بداود عليه السلام ، بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام ، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه ، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب ، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعونه منهم فخافوا فوضعوا كذبا ، فقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض إلى آخر القصة ، وليس في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب [ ص: 169 ] بداود إلا ألفاظ أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قوله : ( وظن داود أنما فتناه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله تعالى : ( فاستغفر ربه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله : ( وأناب ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قوله : ( فغفرنا له ذلك ) ثم نقول : وهذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه ، وتقريره من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق ، وعلم داود عليه السلام ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم ، إلا أنه مال إلى الصفح والتجاوز عنهم طلبا لمرضاة الله ، قال : وكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان ، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهم وأناب ، فغفر له ذلك القدر من الهم والعزم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه ، إلا أنه ندم على ذلك الظن ، وقال : لما لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك ، فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظن الرديء ، فكان هذا هو المراد من قوله : ( وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ) منه فغفر الله له ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن دخولهم عليه كان فتنة لداود عليه السلام ، إلا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله ، كما قال في حق محمد صلى الله عليه وسلم : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) [ محمد : 19 ] فداود عليه السلام استغفر لهم وأناب ، أي رجع إلى الله تعالى في طلب مغفرة ذلك الداخل القاصد للقتل ، وقوله : ( فغفرنا له ذلك ) أي : غفرنا له ذلك الذنب لأجل احترام داود ولتعظيمه ، كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ) [ الفتح : 2 ] أن معناه أن الله تعالى يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمتك .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : هب أنه تاب داود عليه السلام عن زلة صدرت منه ، لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة ، فلم لا يجوز أن يقال إن تلك الزلة إنما حصلت ، لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني ، فإنه لما قال : ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة ، لكون هذا الحكم مخالفا للصواب ، فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة ، إلا أن هذا من باب ترك الأفضل والأولى ، فثبت بهذه البيانات أنا إذا حملنا هذه الآيات على هذا الوجه فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب إلى داود عليه السلام ، بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه ، ثم نقول : وحمل الآية عليه أولى لوجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي ، لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه أحوط .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ) فإن قوم محمد عليه السلام لما أظهروا السفاهة حيث قالوا : ( هذا ساحر كذاب ) واستهزءوا به حيث قالوا : ( ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) فقال تعالى في أول الآية : اصبر يا محمد على سفاهتهم وتحمل وتحلم ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود ، فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على إيذائهم وتحمل سفاهتهم وحلم ولم يظهر الطيش والغضب ، وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه ، أما إذا حملناها على ما ذكروه صار الكلام متناقضا فاسدا .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا : الخصمان كانا ملكين ، ولما كانا من الملائكة وما كان [ ص: 170 ] بينهما مخاصمة وما بغى أحدهما على الآخر ، كان قولهما خصمان بغى بعضنا على بعض كذبا ، فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : إسناد الكذب إلى الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يتوسل بإسناد الكذب إلى الملائكة إلى إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء ، فأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة ، وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء ، فكان قولنا أولى ، فهذا ما عندنا في هذا الباب ، والله أعلم بأسرار كلامه . ونرجع الآن إلى تفسير الآيات . أما قوله : ( وهل أتاك نبأ الخصم ) قال الواحدي : الخصم مصدر خصمته أخصمه خصما ، ثم يسمى به الاثنان والجمع ولا يثنى ولا يجمع ، يقال هما خصم وهم خصم ، كما يقال هما عدل وهم عدل ، والمعنى ذوا خصم وذوو خصم ، وأريد بالخصم ههنا الشخصان اللذان دخلا على داود عليه السلام ، وقوله تعالى : ( إذ تسوروا المحراب ) يقال تسورت السور تسورا إذا علوته ، ومعنى : ( تسوروا المحراب ) أي أتوه من سوره وهو أعلاه ، يقال تسور فلان الدار إذا أتاها من قبل سورها . وأما المحراب فالمراد منه البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه ، وسمي ذلك البيت المحراب لاشتماله على المحراب ، كما يسمى الشيء بأشرف أجزائه ، وههنا مسألة من علم أصول الفقه ، وهي أن أقل الجمع اثنان عند بعض الناس ، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية ، لأنه تعالى ذكر صيغة الجمع في هذه الآيات في أربعة مواضع :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قوله تعالى : ( إذ تسوروا المحراب ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله : ( إذ دخلوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله : ( منهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قوله : ( قالوا لا تخف ) فهذه الألفاظ الأربعة كلها صيغ الجمع ، وهم كانوا اثنين بدليل أنهم قالوا خصمان ، قالوا : فهذه الآية تدل على أن أقل الجمع اثنان .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : لا يمتنع أن يكون كل واحد من الخصمين جمعا كثيرين ، لأنا بينا أن الخصم إذا جعل اسما فإنه لا يثنى ولا يجمع ، ثم قال تعالى : ( إذ دخلوا على داود ) والفائدة فيه أنهم ربما تسوروا المحراب وما دخلوا عليه ، فلما قال : ( إذ دخلوا على ) دل على أنهم بعد التسور دخلوا عليه ، قال الفراء : وقد يجاء بـ " إذ " مرتين ويكون معناهما كالواحد ، كقولك ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت ، مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحدا ، ثم قال تعالى : ( ففزع منهم ) والسبب أن داود عليه السلام لما رآهما قد دخلوا عليه لا من الطريق المعتاد ، علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر ، فلا جرم فزع منهم ، ثم قال تعالى : ( قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : خصمان خبر مبتدأ محذوف ، أي نحن خصمان .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ههنا قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنهما كانا ملكين نزلا من السماء وأراد تنبيه داود عليه السلام على قبح العمل الذي أقدم عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنهما كانا إنسانين دخلا عليه للشر والقتل ، فظنا أنهما يجدانه خاليا ، فلما رأيا عنده جماعة من الخدم اختلقا ذلك الكذب لدفع الشر ، وأما المنكرون لكونهما ملكين فقد احتجوا عليه بأنهما لو كانا ملكين لكانا كاذبين في قولهما ( خصمان ) فإنه ليس بين الملائكة خصومة ، ولكانا كاذبين في قولهما : ( بغى بعضنا على بعض ) ولكانا كاذبين في قولهما : ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ) فثبت أنهما لو كانا ملكين كاذبين ، والكذب على الملك غير جائز لقوله تعالى : ( لا يسبقونه بالقول ) [الأنبياء : 27] ولقوله : ( ويفعلون ما يؤمرون ) [التحريم : 6] أجاب الذاهبون إلى القول الأول عن هذا الكلام بأن قالوا : إن الملكين إنما ذكرا هذا الكلام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل التحقيق فلم يلزم الكذب ، وأجيب [ ص: 171 ] عن هذا الجواب بأن ما ذكرتم يقتضي العدول عن ظاهر اللفظ ، ومعلوم أنه على خلاف الأصل . أما إذا حملنا الكلام على أن الخصمين كانا رجلين دخلا عليه لغرض الشر ثم وضعا هذا الحديث الباطل ، فحينئذ لزم إسناد الكذب إلى شخصين فاسقين فكان هذا أولى من القول الأول ، والله أعلم . وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجا بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : اتفاق أكثر المفسرين عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه أرفع منزلة من أن يتسور عليه آحاد الرعية في حال تعبده فيجب أن يكون ذلك من الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن قوله تعالى : ( قالوا لا تخف ) كالدلالة على كونهما ملكين لأن من هو من رعيته لا يكاد يقول له مثل ذلك مع رفعة منزلته .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن قولهما : ( ولا تشطط ) كالدلالة على كونهما ملكين لأن أحدا من رعيته لا يتجاسر أن يقول له لا تظلم ولا تتجاوز عن الحق ، واعلم أن ضعف هذه الدلائل ظاهر ، ولا حاجة إلى الجواب ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية