( فإذا هو خصيم مبين  وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم  قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم    ) . 
وقوله : ( فإذا هو خصيم مبين    ) فيه لطيفة غريبة وهي أنه تعالى قال : اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء ما خلق منه آية ظاهرة ومع هذا فهنالك ما هو أظهر وهو نطقه وفهمه ، وذلك لأن النطفة جسم ، فهب أن جاهلا يقول إنه استحال وتكون جسما آخر ، لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة ؟ فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم ، وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب ، فقوله : ( خصيم    ) أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان النطق ؛ لأنه أعلى أحوال الناطق ، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره ، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصما لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه ، وقوله : ( مبين    ) إشارة إلى قوة عقله ، واختار الإبانة ؛ لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه ؛ لأن المبين بان عنده الشيء ثم أبانه فقوله تعالى : ( من نطفة    ) إشارة إلى أدنى ما كان عليه وقوله : ( خصيم مبين    ) إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى : ( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة    ) [ المؤمنون : 14 ] إلى أن قال تعالى : ( ثم أنشأناه خلقا آخر    ) [ المؤمنون : 14 ] فما تقدم من خلق النطفة علقة ، وخلق العلقة مضغة ، وخلق المضغة عظاما إشارة إلى التغيرات في الجسم ، وقوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر    ) [ المؤمنون : 14 ] إشارة إلى ما أشار إليه بقوله : ( فإذا هو خصيم مبين    ) أي ناطق عاقل . 
ثم قوله تعالى : ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه    ) إشارة إلى بيان الحشر وفي هذه الآيات إلى آخر السورة غرائب وعجائب نذكرها بقدر الإمكان إن شاء الله تعالى ، فنقول : المنكرون للحشر  منهم من لم يذكر فيه دليلا ولا شبهة واكتفى بالاستبعاد وادعى الضرورة وهم الأكثرون ، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم في كثير من المواضع بلفظ الاستبعاد كما قال : ( وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد    ) [ السجدة : 10 ] ( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون    ) [ الصافات : 16 ] ( أئنك لمن المصدقين    ) [ الصافات : 52 ] ، ( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون    ) [ الصافات : 53 ] إلى غير ذلك فكذلك ههنا قال : ( قال من يحيي العظام وهي رميم    ) على طريق الاستبعاد فبدأ أولا بإبطال استبعادهم بقوله : ( ونسي خلقه    ) أي نسي أنا خلقناه من تراب   [ ص: 96 ] ومن نطفة متشابهة الأجزاء ، ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصور والقوام وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذين بهما استحقوا الإكرام ، فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محل الحياة أصلا ، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه ، ثم إن استبعادهم كان من جهة ما في المعاد من التفتت والتفرق حيث قالوا : ( من يحيي العظام وهي رميم    ) اختاروا العظم للذكر ؛ لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في المعيد من القدرة والعلم فقال : ( وضرب لنا مثلا    ) أي جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب ، ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين : 
أحدهما : أنه بعد العدم لم يبق شيئا فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود ، وأجاب عن هذه الشبهة بقوله تعالى : ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة    ) يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا ، كذلك يعيده وإن لم يبق شيئا مذكورا . 
وثانيها : أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران الرباع كيف يجمع  ؟ وأبعد من هذا هو أن إنسانا إذا أكل إنسانا وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيد فأجزاء المأكول ، إما أن تعاد إلى بدن الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تخلق منها أعضاؤه ، وإما أن تعاد إلى بدن المأكول منه فلا يبقى للآكل أجزاء . 
فقال تعالى في إبطال هذه الشبهة : ( وهو بكل خلق عليم    ) ووجهه هو أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية ، وفي المأكول كذلك ، فإذا أكل إنسان إنسانا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل ، والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل " والله بكل خلق عليم " يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيها روحه ، وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع المبددة في الأصقاع بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة . 
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم وعنادهم . 
				
						
						
