ثم قال تعالى : ( وقليل ما هم    ) واعلم أن الحكم بقلة أهل الخير كثير في القرآن ، قال تعالى : ( وقليل من عبادي الشكور    ) [سبأ : 13] وقال داود  عليه السلام في هذا الموضع ( وقليل ما هم    ) وحكى تعالى عن إبليس أنه قال : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين    ) [الأعراف : 17] وسبب القلة أن الدواعي إلى الدنيا كثيرة ، وهي الحواس الباطنة والظاهرة وهي عشرة ، والشهود والغضب ، والقوى الطبيعية السبعة ، فالمجموع تسعة عشر واقفون على باب جهنم البدن ، وكلها تدعو إلى الخلق والدنيا واللذة الحسية ، وأما الداعي إلى الحق   [ ص: 173 ] والدين فليس إلا العقل ، واستيلاء القوة الحسية والطبيعية على الخلق أكثر من القوة العقلية فيهم ، فلهذا السبب وقعت القلة في جانب أهل الخير والكثرة في جانب أهل الشر ، قال صاحب " الكشاف " وما في قوله : ( وقليل ما هم    ) للإبهام  وفيه تعجب من قلتهم ، قال وإذا أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرئ القيس    ; وحديث ما على قصره - وانظر هل بقي له معنى قط . 
ثم قال تعالى : ( وظن داود أنما فتناه     ) قالوا معناه وعلم داود  أنما فتناه أي امتحناه ، قالوا : والسبب الذي أوجب حمل لفظ الظن على العلم ههنا أن داود  عليه السلام لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ، ثم صعد إلى السماء قبل وجهه ، فعلم داود  أن الله ابتلاه بذلك فثبت أن داود  علم ذلك وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم لأن العلم الاستدلالي يشبه الظن مشابهة عظيمة ، والمشابهة علة لجواز المجاز ، وأقول : هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين أما إذا لم نقل ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العلم ، بل لقائل أن يقول إنه لما غلب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة    . 
أما قوله : ( فاستغفر ربه    ) أي سأل الغفران من ربه ، ثم ههنا وجهان : 
إن قلنا بأنه قد صدرت زلة منه ، حملنا هذا الاستغفار عليها ، وإن لم نقل به قلنا فيه وجوه . 
الأول : أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله ، وإنه كان سلطانا شديد القهر عظيم القوة ، ثم إنه مع إنه مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع حصول الفزع في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئا قرب الأمر من أن يدخل في قلبه شيء من العجب ، فاستغفر ربه عن تلك الحالة وأناب إلى الله ، واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق الله ، فغفر الله له وتجاوز عنه بسبب طريان ذلك الخاطر . 
الثاني : لعله هم بإيذاء القوم ، ثم قال : إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر عن ذلك الهم . 
الثالث : لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم لأجل أن يقبل توبتهم فاستغفر وتضرع إلى الله ، فغفر الله ذنوبهم بسبب شفاعته ودعائه ، وكل هذه الوجوه محتملة ظاهرة ، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه ، وإذا كان اللفظ محتملا لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام المنكرات التي يذكرونها ، فما الذي يحملنا على التزامها والقول بها ، والذي يؤكد أن الذي ذكرناه أقرب وأقوى أن يقال ختم الله هذه القصة بقوله : ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب     ) ومثل هذه الخاتمة إنما تحسن من حق من صدر منه عمل كثير في الخدمة والطاعة ، وتحمل أنواعا من الشدائد في الموافقة والانقياد ، أما إذا كان المذكور السابق هو الإقدام على الجرم والذنب فإن مثل هذه الخاتمة لا تليق به ، قال  مالك بن دينار    ; إذا كان يوم القيامة أتي بمنبر رفيع ويوضع في الجنة ، ويقال يا داود  مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا والله أعلم ، بقي ههنا مباحث : 
الأول : قرئ فتناه وفتناه على أن الألف ضمير الملكين . 
الثاني : المشهور أن الاستغفار إنما كان بسبب قصة النعجة والنعاج  ، وقيل أيضا إنما كان بسبب أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الثاني وذلك غير جائز . 
الثالث : قوله ; ( وخر راكعا وأناب    ) يدل على حصول الركوع ، وأما السجود فقد ثبت بالأخبار وكذلك البكاء الشديد في مدة أربعين يوما ثبت بالأخبار . 
الرابع : أن مذهب  الشافعي  رضي الله عنه أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة  ، قال : لأنه توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة . 
الخامس : استشهد  أبو حنيفة  رضي الله عنه بهذه الآية في سجود التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود . 
 [ ص: 174 ] 
				
						
						
