ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=35nindex.php?page=treesubj&link=31972_29009_29485وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم
[ ص: 183 ] الدين على مهم الدنيا ، لأن
سليمان طلب المغفرة أولا ثم بعده طلب المملكة ، وأيضا الآية تدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=32064_30527_30538طلب المغفرة من الله تعالى سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا ، لأن
سليمان طلب المغفرة أولا ثم توسل به إلى طلب المملكة ،
ونوح عليه السلام هكذا فعل أيضا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=10فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=11يرسل السماء عليكم مدرارا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=12ويمددكم بأموال وبنين ) [نوح : 11] وقال
لمحمد صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=132وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك ) [طه : 132] فإن قيل : قوله عليه السلام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=35ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) مشعر بالحسد ، والجواب عنه أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته ، قالوا : معنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي ، هو أن يعطيه الله ملكا لا تقدر الشياطين أن يقوموا مقامه البتة ، فأما المنكرون لذلك فقد أجابوا عنه من وجوه :
الأول : أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة ، ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي . والدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال عقيبه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=36فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) فكون الريح جاريا بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب ، ولا شك أنه معجزة دالة على نبوته ، فكان قوله : ( هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=35لا ينبغي لأحد من بعدي ) يعني لا يقدر أحد على معارضته .
والوجه الثاني في الجواب : أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر ، فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره ، وذلك الذي سأله بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=35ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري .
الوجه الثالث في الجواب : أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال عدم القدرة عليها ، فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية ، حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل .
الوجه الرابع : من الناس من يقول إن الاحتراز عن لذات الدنيا عسر صعب ، لأن هذه اللذات حاضرة وسعادات الآخرة نسيئة ، والنقد يصعب بيعه بالنسيئة ، فقال
سليمان : أعطني يا رب مملكة تكون أعظم الممالك الممكنة للبشر ، حتى أني أبقى مع تلك القدرة الكاملة في غاية الاحتراز عنها ليظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى .
الوجه الخامس : أن من لم يقدر على الدنيا يبقى ملتفت القلب إليها فيظن أن فيها سعادات عظيمة وخيرات نافعة ، فقال
سليمان : يا رب العزة أعطني أعظم الممالك حتى يقف الناس على كمال حالها ، فحينئذ يظهر للعقل أنه ليس فيها فائدة وحينئذ يعرض القلب عنها ولا يلتفت إليها ، وأشتغل بالعبودية ساكن النفس غير مشغول القلب بعلائق الدنيا ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=36فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) رخاء أي رخوة لينة ، وهي من الرخاوة ، والريح إذا كانت لينة لا تزعزع ولا تمتنع عليه كانت طيبة ، فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في آية أخرى (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=81ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره ) [الأنبياء : 81] قلنا : الجواب من وجهين :
الأول : لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصفة إلا أنها لما جرت بأمره كانت لذيذة طيبة فكانت رخاء .
والوجه الثاني : في الجواب أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى ولا منافاة بين الأمرين ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=36حيث أصاب ) أي قصد وأراد ، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي عن العرب أنهم يقولون : أصاب الصواب فأخطأ الجواب . وعن
رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما ، فقال أين تصيبان ؟ فقالا : هذا مطلوبنا . وبالجملة فالمقصود أنه تعالى جعل الريح مسخرة له حتى
[ ص: 184 ] صارت تجري بأمره على وفق إرادته ، ثم قال (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=37والشياطين كل بناء وغواص ) ، قال صاحب "الكشاف" الشياطين عطف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين وآخرين عطف على قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=37كل بناء ) وهو بدل الكل من الكل كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=38مقرنين ) يقال قرنهم في الحبال والتشديد للكثرة والأصفاد الأغلال واحدها صفد والصفد العطية أيضا ، قال
النابغة :
ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد
فعلى هذا الصفد القيد فكل من شددته شدا وثيقا فقد صفدته ، وكل من أعطيته عطاء جزيلا فقد أصفدته ، وههنا بحث ، وهو أن هذه الآيات دالة على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28796الشياطين لها قوة عظيمة ، وبسبب تلك القوة قدروا على بناء الأبنية القوية التي لا يقدر عليها البشر ، وقدروا على الغوص في البحار ، واحتاج
سليمان عليه السلام إلى قيدهم ، ولقائل أن يقول إن هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة ، إذ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجسادهم ، فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها ، وذلك دخول في السفسطة ، وإن كان الثاني وهو أن أجسادهم ليست كثيفة ، بل لطيفة رقيقة ، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا بالقوة الشديدة ، وأيضا لزم أن تتفرق أجسادهم وأن تتمزق بسبب الرياح القوية وأن يموتوا في الحال ، وذلك يمنع من وصفهم ببناء الأبنية القوية ، وأيضا الجن والشياطين إن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة ، فلم لا يقتلون العلماء والزهاد في زماننا ؟ ولم لا يخربون ديار الناس ؟ مع أن المسلمين مبالغون في إظهار لعنهم وعداوتهم . وحيث لم يحس شيء من ذلك ، علمنا أن القول
nindex.php?page=treesubj&link=28794_28793_28796بإثبات الجن والشياطين ضعيف .
واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسامهم كثيفة مع أنا لا نراها ، وأيضا لا يبعد أن يقال أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ، ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق والتمزق . وأما
الجبائي فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام ، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في زمن
سليمان ، ثم إنه لما توفي
سليمان عليه السلام ، أمات الله أولئك الجن والشياطين ، وخلق نوعا آخر من الجن والشياطين تكون أجسامهم في غاية الرقة ، ولا يكون لهم شيء من القوة ، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=39هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ) وفيه قولان :
الأول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما : أعط من شئت وامنع من شئت بغير حساب ، أي ليس عليك حرج فيما أعطيت وفيما أمسكت .
الثاني : أن هذا في أمر الشياطين خاصة ، والمعنى هؤلاء الشياطين المسخرون عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فحل عنه ، واحبس من شئت منهم في العمل بغير حساب .
ولما ذكر الله تعالى
nindex.php?page=treesubj&link=29485_31971ما أنعم به على سليمان في الدنيا ، أردفه بإنعامه عليه في الآخرة ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=25فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) وقد سبق تفسيره .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=35nindex.php?page=treesubj&link=31972_29009_29485وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ مُهِمِّ
[ ص: 183 ] الدِّينِ عَلَى مُهِمِّ الدُّنْيَا ، لِأَنَّ
سُلَيْمَانَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَهُ طَلَبَ الْمَمْلَكَةَ ، وَأَيْضًا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32064_30527_30538طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِانْفِتَاحِ أَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا ، لِأَنَّ
سُلَيْمَانَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى طَلَبِ الْمَمْلَكَةِ ،
وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا فَعَلَ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=10فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=11يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=12وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ) [نُوحٍ : 11] وَقَالَ
لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=132وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) [طَهَ : 132] فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=35مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) مُشْعِرٌ بِالْحَسَدِ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَوْلَى عَلَى مَمْلَكَتِهِ ، قَالُوا : مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ، هُوَ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ مُلْكًا لَا تَقْدِرُ الشَّيَاطِينُ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ الْبَتَّةَ ، فَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِذَلِكَ فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ فَكَانَ الْمُرَادُ أَقْدِرْنِي عَلَى أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرِي الْبَتَّةَ ، لِيَصِيرَ اقْتِدَارِي عَلَيْهَا مُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي وَرِسَالَتِي . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَقِيبَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=36فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) فَكَوْنُ الرِّيحِ جَارِيًا بِأَمْرِهِ قُدْرَةٌ عَجِيبَةٌ وَمُلْكٌ عَجِيبٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ : ( هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) هُوَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ شَرْطَ الْمُعْجِزَةِ أَنْ لَا يَقْدِرَ غَيْرُهُ عَلَى مُعَارَضَتِهَا ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=35لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) يَعْنِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مُعَارَضَتِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَرِضَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الصِّحَّةِ عَرَفَ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا صَائِرَةٌ إِلَى الْغَيْرِ بِإِرْثٍ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ ، فَسَأَلَ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ الَّذِي سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=35مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) أَيْ مُلْكًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِّي إِلَى غَيْرِي .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ : أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا أَشَقُّ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا حَالَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَا إِلَهِي أَعْطِنِي مَمْلَكَةً فَائِقَةً عَلَى مَمَالِكِ الْبَشَرِ بِالْكُلِّيَّةِ ، حَتَّى أَحْتَرِزَ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِيَصِيرَ ثَوَابِي أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَسِرٌ صَعْبٌ ، لِأَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ حَاضِرَةٌ وَسِعَادَاتِ الْآخِرَةِ نَسِيئَةٌ ، وَالنَّقْدُ يَصْعُبُ بَيْعُهُ بِالنَّسِيئَةِ ، فَقَالَ
سُلَيْمَانُ : أَعْطِنِي يَا رَبِّ مَمْلَكَةً تَكُونُ أَعْظَمَ الْمَمَالِكِ الْمُمْكِنَةِ لِلْبَشَرِ ، حَتَّى أَنِّي أَبْقَى مَعَ تِلْكَ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ فِي غَايَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا لِيَظْهَرَ لِلْخَلْقِ أَنَّ حُصُولَ الدُّنْيَا لَا يَمْنَعُ مِنْ خِدْمَةِ الْمَوْلَى .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الدُّنْيَا يَبْقَى مُلْتَفِتَ الْقَلْبِ إِلَيْهَا فَيَظُنُّ أَنَّ فِيهَا سِعَادَاتٍ عَظِيمَةً وَخَيْرَاتٍ نَافِعَةً ، فَقَالَ
سُلَيْمَانُ : يَا رَبِّ الْعِزَّةِ أَعْطِنِي أَعْظَمَ الْمَمَالِكِ حَتَّى يَقِفَ النَّاسُ عَلَى كَمَالِ حَالِهَا ، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لِلْعَقْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ وَحِينَئِذٍ يُعْرِضُ الْقَلْبُ عَنْهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا ، وَأَشْتَغِلُ بِالْعُبُودِيَّةِ سَاكِنَ النَّفْسِ غَيْرَ مَشْغُولِ الْقَلْبِ بِعَلَائِقِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=36فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) رُخَاءً أَيْ رَخْوَةً لَيِّنَةً ، وَهِيَ مِنَ الرَّخَاوَةِ ، وَالرِّيحُ إِذَا كَانَتْ لَيِّنَةً لَا تُزَعْزِعُ وَلَا تَمْتَنِعُ عَلَيْهِ كَانَتْ طَيِّبَةً ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=81وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) [الْأَنْبِيَاءِ : 81] قُلْنَا : الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ كَانَتْ فِي قُوَّةِ الرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا جَرَتْ بِأَمْرِهِ كَانَتْ لَذِيذَةً طَيِّبَةً فَكَانَتْ رُخَاءً .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : فِي الْجَوَابِ أَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ كَانَتْ لَيِّنَةً مَرَّةً وَعَاصِفَةً أُخْرَى وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=36حَيْثُ أَصَابَ ) أَيْ قَصَدَ وَأَرَادَ ، وَحَكَى
nindex.php?page=showalam&ids=13721الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ . وَعَنْ
رُؤْبَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَصَدَاهُ لِيَسْأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا ، فَقَالَ أَيْنَ تُصِيبَانِ ؟ فَقَالَا : هَذَا مَطْلُوبُنَا . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الرِّيحَ مُسَخَّرَةً لَهُ حَتَّى
[ ص: 184 ] صَارَتْ تَجْرِي بِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=37وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) ، قَالَ صَاحِبُ "الْكَشَّافِ" الشَّيَاطِينُ عَطْفٌ عَلَى الرِّيحِ وَكُلُّ بَنَّاءٍ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَآخِرِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=37كُلَّ بَنَّاءٍ ) وَهُوَ بَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ كَانُوا يَبْنُونَ لَهُ مَا شَاءَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَيَغُوصُونَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُونَ اللُّؤْلُؤَ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=38مُقَرَّنِينَ ) يُقَالُ قَرْنَهُمْ فِي الْحِبَالِ وَالتَّشْدِيدُ لِلْكَثْرَةِ وَالْأَصْفَادُ الْأَغْلَالُ وَاحِدُهَا صَفَدٌ وَالصَّفَدُ الْعَطِيَّةُ أَيْضًا ، قَالَ
النَّابِغَةُ :
وَلَمْ أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ
فَعَلَى هَذَا الصَّفَدِ الْقَيْدُ فَكُلُّ مَنْ شَدَدْتَهُ شَدًّا وَثِيقًا فَقَدْ صَفَّدْتَهُ ، وَكُلُّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ عَطَاءً جَزِيلًا فَقَدْ أَصْفَدْتَهُ ، وَهَهُنَا بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28796الشَّيَاطِينَ لَهَا قُوَّةٌ عَظِيمَةٌ ، وَبِسَبَبِ تِلْكَ الْقُوَّةِ قَدَرُوا عَلَى بِنَاءِ الْأَبْنِيَةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ ، وَقَدَرُوا عَلَى الْغَوْصِ فِي الْبِحَارِ ، وَاحْتَاجَ
سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قَيْدِهِمْ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنْ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْسَادُهُمْ كَثِيفَةً أَوْ لَطِيفَةً ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمْ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْحَاسَّةِ ، إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ لَا نَرَاهُمْ مَعَ كَثَافَةِ أَجْسَادِهِمْ ، فَلْيَجُزْ أَنْ تَكُونَ بِحَضْرَتِنَا جِبَالٌ عَالِيَةٌ وَأَصْوَاتٌ هَائِلَةٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا ، وَذَلِكَ دُخُولٌ فِي السَّفْسَطَةِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَيْسَتْ كَثِيفَةً ، بَلْ لَطِيفَةً رَقِيقَةً ، فَمِثْلُ هَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْقُوَّةِ الشَّدِيدَةِ ، وَأَيْضًا لَزِمَ أَنْ تَتَفَرَّقَ أَجْسَادُهُمْ وَأَنْ تَتَمَزَّقَ بِسَبَبِ الرِّيَاحِ الْقَوِيَّةِ وَأَنْ يَمُوتُوا فِي الْحَالِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ وَصْفِهِمْ بِبِنَاءِ الْأَبْنِيَةِ الْقَوِيَّةِ ، وَأَيْضًا الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ إِنْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ ، فَلِمَ لَا يَقْتُلُونَ الْعُلَمَاءَ وَالزُّهَّادَ فِي زَمَانِنَا ؟ وَلِمَ لَا يُخَرِّبُونَ دِيَارَ النَّاسِ ؟ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُبَالِغُونَ فِي إِظْهَارِ لَعْنِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ . وَحَيْثُ لَمْ يُحَسَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ
nindex.php?page=treesubj&link=28794_28793_28796بِإِثْبَاتِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ ضَعِيفٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ أَجْسَامُهُمْ كَثِيفَةً مَعَ أَنَّا لَا نَرَاهَا ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ أَجْسَامُهُمْ لَطِيفَةٌ بِمَعْنَى عَدَمِ اللَّوْنِ ، وَلَكِنَّهَا صُلْبَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالتَّمَزُّقَ . وَأَمَّا
الْجُبَّائِيُّ فَقَدْ سَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ كَثِيفَةَ الْأَجْسَامِ ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُشَاهِدُونَهُمْ فِي زَمَنِ
سُلَيْمَانَ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ
سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَمَاتَ اللَّهُ أُولَئِكَ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ ، وَخَلَقَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ تَكُونُ أَجْسَامُهُمْ فِي غَايَةِ الرِّقَّةِ ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُوَّةِ ، وَالْمَوْجُودُ فِي زَمَانِنَا مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=39هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) وَفِيهِ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَامْنَعْ مَنْ شِئْتَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ حَرَجٌ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا فِي أَمْرِ الشَّيَاطِينِ خَاصَّةً ، وَالْمَعْنَى هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينُ الْمُسَخَّرُونَ عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَحُلَّ عَنْهُ ، وَاحْبِسْ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فِي الْعَمَلِ بِغَيْرِ حِسَابٍ .
وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=treesubj&link=29485_31971مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى سُلَيْمَانَ فِي الدُّنْيَا ، أَرْدَفَهُ بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=25فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ .