المسألة الرابعة : احتج من أثبت الأعضاء والجوارح لله تعالى بقوله تعالى : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي    ) في إثبات يدين لله تعالى ، بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه ، فوجب المصير إليه ، والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية ، فوجب القطع به . 
واعلم أن الدلائل الدالة على نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأجزاء والأعضاء  ، قد سبقت ، إلا أنا نذكر ههنا نكتا جارية مجرى الإلزامات الظاهرة . 
فالأول : أن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء ، فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها ، وإما أن يزيد عليها ، فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح ، لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله : ( كل شيء هالك إلا وجهه    ) [القصص : 88] ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيونا كثيرة لقوله : ( تجري بأعيننا    ) [القمر : 14] وأن يثبت جنبا واحدا لقوله تعالى : ( نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله    ) [الزمر : 56] وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى : ( مما عملت أيدينا    ) [يس : 71] وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله صلى الله عليه وسلم : الحجر الأسود يمين الله في الأرض وأن يثبت له ساقا واحدا لقوله تعالى : ( يوم يكشف عن ساق    ) [القلم : 42] فيكون الحاصل من هذه الصورة ، مجرد رقعة الوجه   [ ص: 200 ] ويكون عليها عيون كثيرة ، وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد ، ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور ، ولو كان هذا عبدا لم يرغب أحد في شرائه ، فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة . 
وأما القسم الثاني : وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن ، بل يزيد وينقص على وفق التأويلات ، فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر ، ولا بد له من قبول دلائل العقل . 
الحجة الثانية : في إبطال قولهم إنهم إذا أثبتوا الأعضاء لله تعالى ، فإن أثبتوا له عضو الرجل فهو رجل ، وإن أثبتوا له عضو النساء فهو أنثى ، وإن نفوهما فهو خصي أو عنين ، وتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا . 
الحجة الثالثة : أنه في ذاته سبحانه وتعالى ، إما أن يكون جسما صلبا لا ينغمز البتة ، فيكون حجرا صلبا ، وإما أن يكون قابلا للانغماز ، فيكون لينا قابلا للتفرق والتمزق . وتعالى الله عن ذلك . 
الحجة الرابعة : أنه إن كان بحيث لا يمكنه أن يتحرك عن مكانه ، كان كالزمن المقعد العاجز ، وإن كان بحيث يمكنه أن يتحرك عن مكانه ، كان محلا للتغيرات ، فدخل تحت قوله : ( لا أحب الآفلين    ) [الأنعام : 76] . 
الحجة الخامسة : إن كان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحرك كان كالميت ، وإن كان يفعل هذه الأشياء ، كان إنسانا كثير التهمة محتاجا إلى الأكل والشرب والوقاع وذلك باطل . 
الحجة السادسة : أنهم يقولون إنه ينزل كل ليلة من العرش إلى السماء الدنيا ، فنقول لهم حين نزوله : هل يبقى مدبرا للعرش ويبقى مدبرا للسماء الدنيا حين كان على العرش ، وحينئذ لا يبقى في النزول فائدة ، وإن لم يبق مدبرا للعرش فعند نزوله يصير معزولا عن إلهية العرش والسماوات . 
الحجة السابعة : أنهم يقولون إنه تعالى أعظم من العرش  ، وإن العرش لا نسبة لعظمته إلى عظمة الكرسي ، وعلى هذا الترتيب حتى ينتهي إلى السماء الدنيا ، فإذا كان كذلك كانت السماء الدنيا بالنسبة إلى عظمة الله كالذرة بالنسبة إلى البحر ، فإذا نزل فإما أن يقال إن الإله يصير صغيرا بحيث تسعه السماء الدنيا ، وإما أن يقال إن السماء الدنيا تصير أعظم من العرش ، وكل ذلك باطل . 
الحجة الثامنة : ثبت أن العالم كرة ، فإن كان فوق بالنسبة إلى قوم كان تحت بالنسبة إلى قوم آخرين وذلك باطل ، وإن كان فوق بالنسبة إلى الكل ، فحينئذ يكون جسما محيطا بهذا العالم من كل الجوانب ، فيكون إله العالم على هذا القول فلكا من الأفلاك . 
الحجة التاسعة : لما كانت الأرض كرة ، وكانت السماوات كرات ، فكل ساعة تفرض الساعات فإنها تكون ثلث الليل في حق أقوام معينين من سكان كرة العوارض ، فلو نزل من العرش في ثلث الليل وجب أن يبقى أبدا نازلا عن العرش ، وأن لا يرجع إلى العرش البتة . 
الحجة العاشرة : أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب : 
أولها : كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض . 
وثانيها : كونه محدودا متناهيا . 
وثالثها : كونه موصوفا بالحركة والسكون والطلوع   [ ص: 201 ] والغروب ، فإذا كان إله المشبهة مؤلفا من الأعضاء والأجزاء كان مركبا ، فإذا كان على العرش كان محدودا متناهيا ، وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفا بالحركة والسكون ، فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها ، وذلك يبطل قول المشبهة ، وإن لم تكن منافية للإلهية فحينئذ لا يقدر أحد على الطعن في إلهية الشمس والقمر . 
الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : ( قل هو الله أحد    ) [ الإخلاص : 1 ] ولفظ الأحد مبالغة في الوحدة ، وذلك ينافي كونه مركبا من الأجزاء والأبعاض . 
الحجة الثانية عشرة : قوله تعالى : ( والله الغني وأنتم الفقراء    ) [ محمد : 38 ] ولو كان مركبا من الأجزاء والأبعاض لكان محتاجا إليها ، وذلك يمنع من كونه غنيا على الإطلاق ، فثبت بهذه الوجوه أن القول بإثبات الأعضاء والأجزاء لله محال ، ولما ثبت بالدلائل اليقينية وجوب تنزيه الله تعالى عن هذه الأعضاء - فنقول : ذكر العلماء في لفظ اليد وجوها : 
الأول : أن اليد عبارة عن القدرة ، تقول العرب : ما لي بهذا الأمر من يد ، أي : من قوة وطاقة ، قال تعالى : ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح    ) [ البقرة : 237 ] . 
الثاني : اليد عبارة عن النعمة ; يقال : أيادي فلان في حق فلان ظاهرة ، والمراد النعم ، والمراد باليدين النعم الظاهرة والباطنة أو نعم الدين والدنيا . 
الثالث : أن لفظ اليد قد يزاد للتأكيد ، كقول القائل لمن جنى باللسان : هذا ما كسبت يداك ، وكقوله تعالى : ( بشرا بين يدي رحمته    ) [ الأعراف : 57 ] . 
ولقائل أن يقول : حمل اليد على القدرة  ههنا غير جائز ، ويدل عليه وجوه : 
الأول : أن ظاهر الآية يقتضي إثبات اليدين  ، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لزم إثبات قدرتين لله ، وهو باطل . 
والثاني : أن الآية تقتضي أن كون آدم  مخلوقا باليدين يوجب فضيلته وكونه مسجودا للملائكة ، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لكان آدم  مخلوقا بالقدرة ، لكن جميع الأشياء مخلوقة بقدرة الله تعالى ، فكما أن آدم  عليه السلام مخلوق بيد الله تعالى ، فكذلك إبليس مخلوق بيد الله تعالى ، وعلى تقدير أن تكون عبارة عن القدرة ، لم تكن هذه العلة علة ، لكون آدم  مسجودا لإبليس أولى من أن يكون إبليس مسجودا لآدم  ، وحينئذ يختل نظم الآية ويبطل . 
الثالث : أنه جاء في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : كلتا يديه يمنى ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق بالقدرة . 
وأما التأويل الثاني : وهو حمل اليدين على النعمتين ، فهو أيضا باطل لوجوه : 
الأول : أن نعم الله تعالى كثيرة كما قال : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها    ) [ إبراهيم : 34 ] وظاهر الآية يدل على أن اليد لا تزيد على الاثنتين . 
الثاني : لو كانت اليد عبارة عن النعمة ، فنقول : النعمة مخلوقة لله ، فحينئذ لا يكون آدم  مخلوقا لله تعالى ، بل يكون مخلوقا لبعض المخلوقات ، وذلك بأن يكون سببا لمزيد النقصان أولى من أن يكون سببا لمزيد الكمال . 
الثالث : لو كانت اليد عبارة عن النعمة لكان قوله : ( تبارك الذي بيده الملك    ) [ الملك : 1 ] معناه : تبارك الذي بنعمته الملك ، ولكان قوله : ( بيدك الخير    ) معناه : بنعمتك الخير ، ولكان قوله : ( يداه مبسوطتان    ) [ المائدة : 64 ] معناه : نعمتاه مبسوطتان ، ومعلوم أن كل ذلك فاسد . 
وأما التأويل الثالث : وهو قوله : إن لفظ اليد قد يذكر زيادة لأجل التأكيد ، فنقول : لفظ اليد قد يستعمل في   [ ص: 202 ] حق من يكون هذا العضو حاصلا له ، وفي حق من لا يكون هذا العضو حاصلا في حقه . 
أما الأول : فكقولهم في حق من جنى بلسانه : هذا ما كسبت يداك ، والسبب في هذا أن محل القدرة هو اليد ، فأطلق اسم اليد على القدرة ، وعلى هذا التقدير فيصير المراد من لفظ اليد القدرة ، وقد تقدم إبطال هذا الوجه . 
وأما الثاني : فكقوله ( بين يدي عذاب شديد    ) [ سبأ : 46 ] وقوله : ( بين يدي الساعة ) إلا أنا نقول : هذا المجاز بهذا اللفظ مذكور ، والمجاز لا يقاس عليه ، ولا يكون مطردا ، فلا جرم لا يجوز أن يقال : إن هذا المعنى إنما حصل بيد العذاب وبيد الساعة ، ونحن نسلم أن قوله : ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله    ) [ الحجرات : 1 ] قد يجوز أن يراد به التأكيد والصلة ، أما المذكور في هذه الآية ليس هذا اللفظ ، بل قوله تعالى : ( خلقت بيدي    ) وإن كان القياس في المجازات باطلا فقد سقط كلامكم بالكلية ، فهذا منتهى البحث في هذا الباب . 
والذي تلخص عندي في هذا الباب أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيده إلا إذا كانت غاية عنايته مصروفة إلى ذلك العمل ، فإذا كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازا عنه عند قيام الدلائل القاهرة ، فهذا ما لخصناه في هذا الباب ، والله أعلم . 
أما قوله تعالى : ( أستكبرت أم كنت من العالين    )  فالمعنى : أستكبرت الآن أم كنت أبدا من المتكبرين العالين ، فأجاب إبليس بقوله : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين    ) فالمعنى : أني لو كنت مساويا له في الشرف لكان يقبح أمري بسجودي له ، فكيف وأنا خير منه ، ثم بين كونه خيرا منه بأن أصله من النار ، والنار أشرف من الطين ، فصح أن أصله خير من أصل آدم  ، ومن كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه ، فهذه مقدمات ثلاث : 
				
						
						
