المسألة الأولى : أما تحقيق الكلام في
nindex.php?page=treesubj&link=19571ماهية الصبر فقد ذكرناه في سورة البقرة ، والمراد ههنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم ، وعلى تجرع الغصص ، واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى .
المسألة الثانية :
nindex.php?page=treesubj&link=19579تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب ، لأن الأجر هو المستحق ، إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب ، فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجرا بحسب الوعد ، لا بحسب الاستحقاق .
المسألة الثالثة :
nindex.php?page=treesubj&link=19579أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب ، وفيه وجوه :
الأول : قال
الجبائي : المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلا ، فهو بغير حساب ، ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حسابا ، قال القاضي : هذا ليس بصحيح ، لأن الله تعالى وصف الأجر بأنه بغير حساب ، ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق ، والأجر غير التفضل .
الثاني : أن الثواب له صفات ثلاثة :
إحداها : أنها تكون دائمة الأجر لهم ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10بغير حساب ) معناه بغير نهاية ، لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه ، فما لا نهاية له كان خارجا عن الحساب .
وثانيها : أنها تكون منافع كاملة في أنفسها ، وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب ، قال - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013640إن في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه ، وما لا يتوقعه الإنسان ، فقد يقال : إنه ليس في حسابه ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10بغير حساب ) محمول على هذا المعنى ، والوجه الثالث في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال ، روى صاحب " الكشاف " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013641ينصب الله الموازين يوم القيامة ، فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ، ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صبا ، قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل .
النوع الثاني : من البيانات التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) ، قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك ، يعبدون اللات والعزى ، فأنزل الله " قل يا
محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له
[ ص: 222 ] الدين " ، وأقول : إن التكليف نوعان :
أحدهما : الأمر بالاحتراز عما لا ينبغي .
والثاني : الأمر بتحصيل ما ينبغي ، والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة ، إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قدم الأمر بإزالة ما ينبغي ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10اتقوا ربكم ) لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ، ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) وهذا يشتمل على قيدين :
أحدهما :
nindex.php?page=treesubj&link=29429_20682الأمر بعبادة الله .
الثاني : كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي ، وشوائب الشرك الخفي ، وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=12وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) لا شبهة في أن المراد أني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها ، وفي هذه الآية فائدتان :
الفائدة الأولى : كأنه يقول : إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك ، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعا فيه ، وأكثرهم مداومة عليه .
الفائدة الثانية : أنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11إني أمرت أن أعبد الله ) والعبادة لها ركنان : عمل القلب ، وعمل الجوارح ،
nindex.php?page=treesubj&link=30481_28678وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح ، فقدم ذكر الجزء الأشرف ، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11مخلصا له الدين ) ثم ذكر عقيبه الأدون ، وهو عمل الجوارح ، وهو الإسلام ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الإسلام في خبر
جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة ، وهو المراد بقوله في هذه الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=12وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) وليس لقائل أن يقول : ما الفائدة في تكرير لفظ " أمرت " لأنا نقول : ذكر لفظ " أمرت " أولا في عمل القلب ، وثانيا في عمل الجوارح ، ولا يكون هذا تكريرا .
الفائدة الثالثة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=12وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) التنبيه على كونه رسولا من عند الله واجب الطاعة ، لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله ، لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ ، ولما بين الله تعالى أمره بالإخلاص بالقلب وبالأعمال المخصوصة ، وكان الأمر يحتمل الوجوب ويحتمل الندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=13قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) ، وفيه فوائد :
الفائدة الأولى : أن الله أمر
محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يجري هذا الكلام على نفسه ، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي ، لأنه مع جلالة قدره وشرف نبوته إذا وجب أن يكون خائفا حذرا عن المعاصي ، فغيره بذلك أولى .
الفائدة الثانية : دلت الآية على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30525_30531_29468المرتب على المعصية ليس حصول العقاب ، بل الخوف من العقاب ، وهذا يطابق قولنا : إن الله تعالى قد يعفو عن المذنب والكبيرة ، فيكون اللازم عند حصول المعصية هو الخوف من العقاب لا نفس حصول العقاب .
الفائدة الثالثة : دلت هذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب ، وذلك لأنه قال في أول الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11إني أمرت أن أعبد الله ) ثم قال بعده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=13قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره ، وذلك يقتضي أن يكون تارك الأمر عاصيا ، والعاصي يترتب عليه الخوف من العقاب ، ولا معنى للوجوب إلا ذلك .
[ ص: 223 ] النوع الثالث : من الأشياء التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قل الله أعبد مخلصا له ديني ) فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قل الله أعبد مخلصا له ديني ) ؟ ، قلنا : هذا ليس بتكرير ، لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة ، والثاني إخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحدا غيره ، وذلك لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11أمرت أن أعبد الله ) لا يفيد الحصر ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قل الله أعبد ) يفيد الحصر ، يعني : الله أعبد ولا أعبد أحدا سواه ، والدليل عليه أنه لما قال بعد : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قل الله أعبد ) قال بعده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15فاعبدوا ما شئتم من دونه ) ولا شبهة في أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15فاعبدوا ما شئتم من دونه ) ليس أمرا ، بل المراد منه الزجر ، كأنه يقول : لما بلغ البيان في وجوب رعاية التوحيد إلى الغاية القصوى ، فبعد ذلك أنتم أعرف بأنفسكم ، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ) لوقوعها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه ، وخسروا أهليهم أيضا ، لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده ألبتة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إن لكل رجل منزلا وأهلا وخدما في الجنة ، فإن أطاع أعطي ذلك ، وإن كان من أهل النار حرم ذلك ، فخسر نفسه وأهله ومنزله ، وورثه غيره من المسلمين ، والخاسر المغبون ، ولما شرح الله خسرانهم وصف ذلك الخسران بغاية الفظاعة فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15ألا ذلك هو الخسران المبين ) كان التكرير لأجل التأكيد .
الثاني : أنه تعالى ذكر في أول هذه الكلمة حرف " ألا " وهو للتنبيه ، وذكر التنبيه في هذا الموضع يدل على التعظيم ، كأنه قيل : إنه بلغ في العظمة إلى حيث لا تصل عقولكم إليها فتنبهوا لها .
الثالث : أن كلمة " هو " في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15هو الخسران المبين ) تفيد الحصر ، كأنه قيل : كل خسران فإنه يصير في مقابلته كلا خسران .
الرابع : وصفه بكونه مبينا يدل على التهويل ، وأقول : قد بينا أن لفظ الآية يدل على كونه خسرانا مبينا ، فلنبين بحسب المباحث العقلية كونه خسرانا مبينا ، وأقول : نفتقر إلى بيان أمرين : إلى أن يكون خسرانا ، ثم كونه مبينا . أما الأول فتقريره أنه تعالى أعطى هذه الحياة وأعطى العقل ، وأعطى المكنة ، وكل ذلك رأس المال ، أما هذه الحياة فالمقصود منها أن يكتسب فيها الحياة الطيبة في الآخرة .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَمَّا تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=19571مَاهِيَّةِ الصَّبْرِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَالْمُرَادُ هَهُنَا بِالصَّابِرِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ ، وَعَلَى تَجَرُّعِ الْغُصَصِ ، وَاحْتِمَالِ الْبَلَايَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=19579تَسْمِيَةُ الْمَنَافِعِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الصَّبْرِ بِالْأَجْرِ تُوهِمُ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الثَّوَابِ ، لِأَنَّ الْأَجْرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ ، إِلَّا أَنَّهُ قَامَتِ الدَّلَائِلُ الْقَاهِرَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ ، فَوَجَبَ حَمْلُ لَفْظِ الْأَجْرِ عَلَى كَوْنِهِ أَجْرًا بِحَسَبِ الْوَعْدِ ، لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=19579أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْأَجْرَ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَفِيهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : قَالَ
الْجُبَّائِيُّ : الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مَا يَسْتَحِقُّونَ وَيَزْدَادُونَ تَفَضُّلًا ، فَهُوَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا إِلَّا الْمُسْتَحَقَّ لَكَانَ ذَلِكَ حِسَابًا ، قَالَ الْقَاضِي : هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْأَجْرَ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَلَوْ لَمْ يُعْطَوْا إِلَّا الْأَجْرَ الْمُسْتَحَقَّ ، وَالْأَجْرُ غَيْرُ التَّفَضُّلِ .
الثَّانِي : أَنَّ الثَّوَابَ لَهُ صِفَاتٌ ثَلَاثَةٌ :
إِحْدَاهَا : أَنَّهَا تَكُونُ دَائِمَةَ الْأَجْرِ لَهُمْ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10بِغَيْرِ حِسَابٍ ) مَعْنَاهُ بِغَيْرِ نِهَايَةٍ ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ دَخَلَ تَحْتَ الْحِسَابِ فَهُوَ مُتَنَاهٍ ، فَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْحِسَابِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهَا تَكُونُ مَنَافِعَ كَامِلَةً فِي أَنْفُسِهَا ، وَعَقْلُ الْمُطِيعِ مَا كَانَ يَصِلُ إِلَى كُنْهِ ذَلِكَ الثَّوَابِ ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013640إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَكُلُّ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّوَابِ وَجَدُوهُ أَزْيَدَ مِمَّا تَصَوَّرُوهُ وَتَوَقَّعُوهُ ، وَمَا لَا يَتَوَقَّعُهُ الْإِنْسَانُ ، فَقَدْ يُقَالُ : إِنَّهُ لَيْسَ فِي حِسَابِهِ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10بِغَيْرِ حِسَابٍ ) مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ ثَوَابَ أَهْلِ الْبَلَاءِ لَا يُقَدَّرُ بِالْمِيزَانِ وَالْمِكْيَالِ ، رَوَى صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013641يَنْصِبُ اللَّهُ الْمَوَازِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُؤْتَى أَهْلُ الصَّلَاةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِالْمَوَازِينِ ، وَيُؤْتَى بِأَهْلِ الصَّدَقَةِ فَيُوَفَّوْنَ أُجُورَهُمْ بِالْمَوَازِينِ ، وَيُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ فَلَا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ ، وَلَا يُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ ، وَيُصَبُّ عَلَيْهِمُ الْأَجْرُ صَبًّا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ الْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ أَجْسَادَهُمْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ لِمَا بِهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنَ الْفَضْلِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : مِنَ الْبَيَانَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَذْكُرَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) ، قَالَ مُقَاتِلٌ : إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ ؟ أَلَا تَنْظُرُ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وَجَدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ ، يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ " قُلْ يَا
مُحَمَّدُ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ
[ ص: 222 ] الدِّينَ " ، وَأَقُولُ : إِنَّ التَّكْلِيفَ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْأَمْرُ بِالِاحْتِرَازِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي .
وَالثَّانِي : الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ مَا يَنْبَغِي ، وَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بِحَسَبِ الرُّتْبَةِ الْوَاجِبَةِ اللَّازِمَةِ ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ الْأَمْرَ بِإِزَالَةِ مَا يَنْبَغِي ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=10اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) لِأَنَّ التَّقْوَى هِيَ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ مَا يَنْبَغِي فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) وَهَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى قَيْدَيْنِ :
أَحَدُهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=29429_20682الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ .
الثَّانِي : كَوْنُ تِلْكَ الْعِبَادَةِ خَالِصَةً عَنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ ، وَشَوَائِبِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الرَّسُولَ بِهَذَا الْأَمْرِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِذَلِكَ أَحَقُّ فَهُوَ كَالتَّرْغِيبِ لِلْغَيْرِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=12وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنِّي أَوَّلُ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي أُرْسِلْتُ بِهَا ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَتَانِ :
الْفَائِدَةُ الْأُولَى : كَأَنَّهُ يَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ مِنَ الْمُلُوكِ الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِأَشْيَاءَ وَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، بَلْ كُلُّ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأَنَا أَوَّلُ النَّاسِ شُرُوعًا فِيهِ ، وَأَكْثَرُهُمْ مُدَاوَمَةً عَلَيْهِ .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ) وَالْعِبَادَةُ لَهَا رُكْنَانِ : عَمَلُ الْقَلْبِ ، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=30481_28678وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَشْرَفُ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْجُزْءَ الْأَشْرَفَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الْأَدْوَنَ ، وَهُوَ عَمَلُ الْجَوَارِحِ ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الْإِسْلَامَ فِي خَبَرِ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=12وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ لِفْظِ " أُمِرْتُ " لِأَنَّا نَقُولُ : ذَكَرَ لَفْظَ " أُمِرْتُ " أَوَّلًا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ ، وَثَانِيًا فِي عَمَلِ الْجَوَارِحِ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا تَكْرِيرًا .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=12وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) التَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاجِبَ الطَّاعَةِ ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَرَائِعِ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَعْرِفُ تِلْكَ الشَّرَائِعَ وَالتَّكَالِيفَ هُوَ الرَّسُولُ الْمُبَلِّغُ ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُ بِالْإِخْلَاصِ بِالْقَلْبِ وَبِالْأَعْمَالِ الْمَخْصُوصَةِ ، وَكَانَ الْأَمْرُ يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَيَحْتَمِلُ النَّدْبَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=13قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) ، وَفِيهِ فَوَائِدُ :
الْفَائِدَةُ الْأُولَى : أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجْرِيَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي زَجْرِ الْغَيْرِ عَنِ الْمَعَاصِي ، لِأَنَّهُ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَشَرَفِ نُبُوَّتِهِ إِذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا حَذِرًا عَنِ الْمَعَاصِي ، فَغَيْرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ : دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30525_30531_29468الْمُرَتَّبَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَيْسَ حُصُولَ الْعِقَابِ ، بَلِ الْخَوْفَ مِنَ الْعِقَابِ ، وَهَذَا يُطَابِقُ قَوْلَنَا : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الْمُذْنِبِ وَالْكَبِيرَةِ ، فَيَكُونُ اللَّازِمُ عِنْدَ حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ هُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ لَا نَفْسَ حُصُولِ الْعِقَابِ .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=13قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) فَيَكُونُ مَعْنَى هَذَا الْعِصْيَانِ تَرْكَ الْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْأَمْرِ عَاصِيًا ، وَالْعَاصِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ ، وَلَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ إِلَّا ذَلِكَ .
[ ص: 223 ] النَّوْعُ الثَّالِثُ : مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَذْكُرَهَا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ) فَإِنْ قِيلَ : مَا مَعْنَى التَّكْرِيرِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ) ؟ ، قُلْنَا : هَذَا لَيْسَ بِتَكْرِيرٍ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ بِالْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَةِ ، وَالثَّانِي إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ لَا يَعْبُدَ أَحَدًا غَيْرَهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=11أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ) لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ ) يُفِيدُ الْحَصْرَ ، يَعْنِي : اللَّهَ أَعْبُدُ وَلَا أَعْبُدُ أَحَدًا سِوَاهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ ) قَالَ بَعْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) لَيْسَ أَمْرًا ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الزَّجْرُ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَمَّا بَلَغَ الْبَيَانُ فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ التَّوْحِيدِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى ، فَبَعْدَ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَعْرَفُ بِأَنْفُسِكُمْ ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى كَمَالَ الزَّجْرِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) لِوُقُوعِهَا فِي هَلَاكٍ لَا يُعْقَلُ هَلَاكٌ أَعْظَمُ مِنْهُ ، وَخَسِرُوا أَهْلِيهِمْ أَيْضًا ، لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَدْ خَسِرُوهُمْ كَمَا خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَدْ ذَهَبُوا عَنْهُمْ ذَهَابًا لَا رُجُوعَ بَعْدَهُ أَلْبَتَّةَ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مَنْزِلًا وَأَهْلًا وَخَدَمًا فِي الْجَنَّةِ ، فَإِنْ أَطَاعَ أُعْطِيَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ حُرِمَ ذَلِكَ ، فَخَسِرَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَنْزِلَهُ ، وَوَرِثَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْخَاسِرُ الْمَغْبُونُ ، وَلَمَّا شَرَحَ اللَّهُ خُسْرَانَهُمْ وَصَفَ ذَلِكَ الْخُسْرَانَ بِغَايَةِ الْفَظَاعَةِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) كَانَ التَّكْرِيرُ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَرْفَ " أَلَا " وَهُوَ لِلتَّنْبِيهِ ، وَذِكْرُ التَّنْبِيهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : إِنَّهُ بَلَغَ فِي الْعَظَمَةِ إِلَى حَيْثُ لَا تَصِلُ عُقُولُكُمْ إِلَيْهَا فَتَنَبَّهُوا لَهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّ كَلِمَةَ " هُوَ " فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=15هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) تُفِيدُ الْحَصْرَ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : كُلُّ خُسْرَانٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَلَا خُسْرَانٍ .
الرَّابِعُ : وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا يَدُلُّ عَلَى التَّهْوِيلِ ، وَأَقُولُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ خُسْرَانًا مُبِينًا ، فَلْنُبَيِّنْ بِحَسَبِ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ كَوْنَهُ خُسْرَانًا مُبِينًا ، وَأَقُولُ : نَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ أَمْرَيْنِ : إِلَى أَنْ يَكُونَ خُسْرَانًا ، ثُمَّ كَوْنِهِ مُبِينًا . أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى هَذِهِ الْحَيَاةَ وَأَعْطَى الْعَقْلَ ، وَأَعْطَى الْمُكْنَةَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ رَأْسُ الْمَالِ ، أَمَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يَكْتَسِبَ فِيهَا الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الْآخِرَةِ .