المسألة الأولى : معنى (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23تقشعر منه جلود ) تأخذهم قشعريرة ، وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف ، قال المفسرون : والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر الله ، وأقول : إن المحققين من العارفين قالوا : السائرون في مبدأ جلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا ، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا ، ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير ، فنقول : الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة ، فهنا يقشعر جلده ، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم ، مما يصعب تصوره ، فههنا تقشعر الجلود ، أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فردا أحدا ، وثبت أن كل متحيز فهو منقسم ، فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله .
وأيضا إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضا بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة ، ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن ، فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل ، قال العقل : هذا ليس بشيء ، لأن كل ما استحضرته في فهو متناه ، والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية ، فههنا يتحير العقل ويقشعر الجلد ، وأما إذا ترك هذا الاعتبار ، وقال ههنا موجود ، والموجود إما واجب وإما ممكن ، فإن كان واجبا فهو دائما منزه عن الأول والآخر ، وإن كان ممكنا فهو محتاج إلى الواجب فيكون أزليا أبديا ، فإذا اعتبر العقل فهم معنى الأزلية ، فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله ، فثبت أن المقامين المذكورين في الآية لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب وآية الرحمة ، بل ذاك أولى تلك المراتب ، وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين المذكورتين .
المسألة الثانية : روى
الواحدي في " البسيط " عن
قتادة أنه قال : القرآن دل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=29568_32239_32240_18627أولياء الله موصوفون بأنهم عند المكاشفات والمشاهدات ، تارة تقشعر جلودهم وأخرى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، وليس فيه أن عقولهم تزول وأن أعضاءهم تضطرب ، فدل هذا على أن تلك الأحوال لو حصلت لكانت من الشيطان ، وأقول : ههنا بحث آخر ، وهو أن الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب إحياء علوم الدين ، وهي أنا نرى كثيرا من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر ، وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال ، ثم إنه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة ، وأنا أقول : إني خلقت محروما عن هذا المعنى ، فإني كلما تأملت في أسرار القرآن اقشعر
[ ص: 238 ] جلدي ووقف شعري وحصلت في قلبي دهشة وروعة ، وكلما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل علي وما وجدت ألبتة في نفسي منها أثرا ، وأظن أن المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن تلك الأشعار كلمات مشتملة على وصل وهجر وبغض وحب تليق بالخلق ، وإثباته في حق الله تعالى كفر ، وأما الانتقال من تلك الأحوال إلى معان لائقة بجلال الله فلا يصل إليها إلا العلماء الراسخون في العلم ، وأما المعاني التي يشتمل عليها القرآن فهي أحوال لائقة بجلال الله ، فمن وقف عليها عظم الوله في قلبه ، فإن من كان عنده نور الإيمان وجب أن يعظم اضطرابه عند سماع قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=59وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) [ الأنعام : 59 ] إلى آخر الآية .
والثاني : وهو أني سمعت بعض المشايخ قال : كما أن الكلام له أثر ، فكذلك صدور ذلك الكلام من القائل المعين له أثر ، لأن قوة نفس القائل تعين على نفاذ الكلام في الروح ، والقائل في القرآن هنا هو الله بواسطة
جبريل بتبليغ الرسول المعصوم ، والقائل هناك شاعر كذاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور .
والثالث : أن
nindex.php?page=treesubj&link=18619_29568مدار القرآن على الدعوة إلى الحق ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) [ الشورى : 53 ] ، وأما الشعر فمداره على الباطل ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=224والشعراء يتبعهم الغاوون nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=225ألم تر أنهم في كل واد يهيمون nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=226وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) [ الشعراء : 224 ] فهذه الوجوه الثلاثة فروق ظاهرة ، وأما ما يتعلق بالوجدان من النفس فإن كل أحد إنما يخبر عما يجده من نفسه ، والذي وجدته من النفس والعقل ما ذكرته ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : في بيان ما بقي من المشكلات في هذه الآية ، ونذكرها في معرض السؤال والجواب .
السؤال الأول : كيف تركيب لفظ القشعريرة ، الجواب : قال صاحب " الكشاف " : تركيبه من حروف التقشع ، وهو الأديم اليابس ، مضموما إليها حرف رابع ، وهو الراء ؛ ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد ، يقال : اقشعر جلده من الخوف ووقف شعره ، وذلك مثل في شدة الخوف .
السؤال الثاني : كيف قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) وما الوجه في تعديه بحرف " إلى " ؟ والجواب : التقدير تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله ، وهو لا يحس بالإدراك .
السؤال الثالث : لم قال " إلى ذكر الله " ، ولم يقل : إلى ذكر رحمة الله ؟ والجواب : أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله ، وإنما أحب شيئا غيره ، وأما من أحب الله لا لشيء سواه ، فهذا هو المحب المحق ، وهو الدرجة العالية ، فلهذا السبب لم يقل : ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله ، بل قال : إلى ذكر الله ، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) [ الأنعام : 125 ] ، وفي قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=28ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] ، وأيضا قال لأمة
موسى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) [ البقرة : 40 ] ، وقال أيضا لأمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152فاذكروني أذكركم ) [ البقرة : 152 ] .
السؤال الرابع : لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط ، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معا ؟ والجواب : لأن
nindex.php?page=treesubj&link=28894_28686المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف ، لأن الخير مطلوب بالذات ، والشر مطلوب بالعرض ، ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح ، والله أعلم .
ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد )
[ ص: 239 ] ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23ذلك ) إشارة إلى الكتاب ، وهو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ، وهو الذي شرح صدره أولا لقبول هذه الهداية (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23ومن يضلل الله ) أي من جعل قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم منافيا لقبول هذه الهداية (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23فما له من هاد ) واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات
المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) [ الأنعام : 125 ] .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مَعْنَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ) تَأْخُذُهُمْ قُشَعْرِيرَةٌ ، وَهِيَ تَغَيُّرٌ يَحْدُثُ فِي جِلْدِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْوَجَلِ وَالْخَوْفِ ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ يَحْصُلُ لَهُمُ الْفَرَحُ فَتَلِينُ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَأَقُولُ : إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ قَالُوا : السَّائِرُونَ فِي مَبْدَأِ جَلَالِ اللَّهِ إِنْ نَظَرُوا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا ، وَإِنْ لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَزِيدَ شَرْحٍ وَتَقْرِيرٍ ، فَنَقُولَ : الْإِنْسَانُ إِذَا تَأَمَّلَ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ التَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ ، فَهُنَا يَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ مَوْجُودٍ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ وَلَا مُنْفَصِلٌ عَنِ الْعَالَمِ ، مِمَّا يَصْعُبُ تَصَوُّرُهُ ، فَهَهُنَا تَقْشَعِرُّ الْجُلُودُ ، أَمَّا إِذَا تَأَمَّلَ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا أَحَدًا ، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ ، فَهَهُنَا يَلِينُ جِلْدُهُ وَقَلْبُهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ .
وَأَيْضًا إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِيطَ عَقْلُهُ بِمَعْنَى الْأَزَلِ فَيَتَقَدَّمَ فِي ذِهْنِهِ بِمِقْدَارِ أَلْفِ أَلْفِ سَنَةٍ ثُمَّ يَتَقَدَّمَ أَيْضًا بِحَسَبِ كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ تِلْكَ الْمُدَّةِ أَلْفِ أَلْفِ سَنَةٍ ، وَلَا يَزَالُ يَحْتَالُ وَيَتَقَدَّمُ وَيَتَخَيَّلُ فِي الذِّهْنِ ، فَإِذَا بَالَغَ وَتَوَغَّلَ وَظَنَّ أَنَّهُ اسْتَحْضَرَ مَعْنَى الْأَزَلِ ، قَالَ الْعَقْلُ : هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ كُلَّ مَا اسْتَحْضَرْتُهُ فِيَّ فَهُوَ مُتَنَاهٍ ، وَالْأَزَلُ هُوَ الْوُجُودُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمُتَنَاهِيَةِ ، فَهَهُنَا يَتَحَيَّرُ الْعَقْلُ وَيَقْشَعِرُّ الْجِلْدُ ، وَأَمَّا إِذَا تَرَكَ هَذَا الِاعْتِبَارَ ، وَقَالَ هَهُنَا مَوْجُودٌ ، وَالْمَوْجُودُ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ دَائِمًا مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْوَاجِبِ فَيَكُونُ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا ، فَإِذَا اعْتَبَرَ الْعَقْلُ فَهِمَ مَعْنَى الْأَزَلِيَّةِ ، فَهَهُنَا يَلِينُ جِلْدُهُ وَقَلْبُهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقَامَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْآيَةِ لَا يَجِبُ قَصْرُهُمَا عَلَى سَمَاعِ آيَةِ الْعَذَابِ وَآيَةِ الرَّحْمَةِ ، بَلْ ذَاكَ أُولَى تِلْكَ الْمَرَاتِبِ ، وَبَعْدَهُ مَرَاتِبُ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى
الْوَاحِدِيُّ فِي " الْبَسِيطِ " عَنْ
قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29568_32239_32240_18627أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ عِنْدَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ ، تَارَةً تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ وَأُخْرَى تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ عُقُولَهُمْ تَزُولُ وَأَنَّ أَعْضَاءَهُمْ تَضْطَرِبُ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ لَوْ حَصَلَتْ لَكَانَتْ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَأَقُولُ : هَهُنَا بَحْثٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْخَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ أَوْرَدَ مَسْأَلَةً فِي كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ ، وَهِيَ أَنَّا نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْوَجْدُ الشَّدِيدُ التَّامُّ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى شَرْحِ الْوَصْلِ وَالْهَجْرِ ، وَعِنْدَ سَمَاعِ الْآيَاتِ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، ثُمَّ إِنَّهُ سَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَذَكَرَ الْعُذْرَ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ، وَأَنَا أَقُولُ : إِنِّي خُلِقْتُ مَحْرُومًا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى ، فَإِنِّي كُلَّمَا تَأَمَّلْتُ فِي أَسْرَارِ الْقُرْآنِ اقْشَعَرَّ
[ ص: 238 ] جِلْدِي وَوَقَفَ شَعْرِي وَحَصَلَتْ فِي قَلْبِي دَهْشَةٌ وَرَوْعَةٌ ، وَكُلَّمَا سَمِعْتُ تِلْكَ الْأَشْعَارِ غَلَبَ الْهَزْلُ عَلَيَّ وَمَا وَجَدْتُ أَلْبَتَّةَ فِي نَفْسِي مِنْهَا أَثَرًا ، وَأَظُنُّ أَنَّ الْمَنْهَجَ الْقَوِيمَ وَالصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ هَذَا ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ تِلْكَ الْأَشْعَارَ كَلِمَاتٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى وَصْلٍ وَهَجْرٍ وَبُغْضٍ وَحُبٍّ تَلِيقُ بِالْخَلْقِ ، وَإِثْبَاتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ إِلَى مَعَانٍ لَائِقَةٍ بِجَلَالِ اللَّهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ، وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فَهِيَ أَحْوَالٌ لَائِقَةٌ بِجَلَالِ اللَّهِ ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا عَظُمَ الْوَلَهُ فِي قَلْبِهِ ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ نُورُ الْإِيمَانِ وَجَبَ أَنْ يَعْظُمَ اضْطِرَابُهُ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=59وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ) [ الْأَنْعَامِ : 59 ] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ .
وَالثَّانِي : وَهُوَ أَنِّي سَمِعْتُ بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَالَ : كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ لَهُ أَثَرٌ ، فَكَذَلِكَ صُدُورُ ذَلِكَ الْكَلَامِ مِنَ الْقَائِلِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَثَرٌ ، لِأَنَّ قُوَّةَ نَفْسِ الْقَائِلِ تُعِينُ عَلَى نَفَاذِ الْكَلَامِ فِي الرُّوحِ ، وَالْقَائِلُ فِي الْقُرْآنِ هُنَا هُوَ اللَّهُ بِوَاسِطَةِ
جِبْرِيلَ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ ، وَالْقَائِلُ هُنَاكَ شَاعِرٌ كَذَّابٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الشَّهْوَةِ وَدَاعِيَةِ الْفُجُورِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18619_29568مَدَارَ الْقُرْآنِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) [ الشُّورَى : 53 ] ، وَأَمَّا الشِّعْرُ فَمَدَارُهُ عَلَى الْبَاطِلِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=224وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=225أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=226وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ) [ الشُّعَرَاءِ : 224 ] فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ فُرُوقٌ ظَاهِرَةٌ ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوُجْدَانِ مِنَ النَّفْسِ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَالَّذِي وَجَدْتُهُ مِنَ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مَا ذَكَرْتُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي بَيَانِ مَا بَقِيَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَنَذْكُرُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ : كَيْفَ تَرْكِيبُ لَفْظِ الْقُشَعْرِيرَةِ ، الْجَوَابُ : قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : تَرْكِيبُهُ مِنْ حُرُوفِ التَّقَشُّعِ ، وَهُوَ الْأَدِيمُ الْيَابِسُ ، مَضْمُومًا إِلَيْهَا حَرْفٌ رَابِعٌ ، وَهُوَ الرَّاءُ ؛ لِيَكُونَ رُبَاعِيًّا وَدَالًّا عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ ، يُقَالُ : اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَوَقَفَ شَعْرُهُ ، وَذَلِكَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ .
السُّؤَالُ الثَّانِي : كَيْفَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) وَمَا الْوَجْهُ فِي تَعَدِّيهِ بِحَرْفِ " إِلَى " ؟ وَالْجَوَابُ : التَّقْدِيرُ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ حَالَ وُصُولِهَا إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ ، وَهُوَ لَا يُحَسُّ بِالْإِدْرَاكِ .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ : لِمَ قَالَ " إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ " ، وَلَمْ يَقُلْ : إِلَى ذِكْرِ رَحْمَةِ اللَّهِ ؟ وَالْجَوَابُ : أَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لِأَجْلِ رَحْمَتِهِ فَهُوَ مَا أَحَبَّ اللَّهَ ، وَإِنَّمَا أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَهُ ، وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لَا لِشَيْءٍ سِوَاهُ ، فَهَذَا هُوَ الْمُحِبُّ الْمُحِقُّ ، وَهُوَ الدَّرَجَةُ الْعَالِيَةُ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَقُلْ : ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ رَحْمَةِ اللَّهِ ، بَلْ قَالَ : إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ) [ الْأَنْعَامِ : 125 ] ، وَفِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=28أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [ الرَّعْدِ : 28 ] ، وَأَيْضًا قَالَ لِأُمَّةِ
مُوسَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 40 ] ، وَقَالَ أَيْضًا لِأُمَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 152 ] .
السُّؤَالُ الرَّابِعُ : لِمَ قَالَ فِي جَانِبِ الْخَوْفِ قُشَعْرِيرَةُ الْجُلُودِ فَقَطْ ، وَفِي جَانِبِ الرَّجَاءِ لِينُ الْجُلُودِ وَالْقُلُوبِ مَعًا ؟ وَالْجَوَابُ : لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28894_28686الْمُكَاشَفَةَ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ أَكْمَلُ مِنْهَا فِي مَقَامِ الْخَوْفِ ، لِأَنَّ الْخَيْرَ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ ، وَالشَّرَّ مَطْلُوبٌ بِالْعَرَضِ ، وَمَحَلُّ الْمُكَاشَفَاتِ هُوَ الْقُلُوبُ وَالْأَرْوَاحُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )
[ ص: 239 ] ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23ذَلِكَ ) إِشَارَةٌ إِلَى الْكِتَابِ ، وَهُوَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَهُوَ الَّذِي شَرَحَ صَدْرَهُ أَوَّلًا لِقَبُولِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ) أَيْ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ قَاسِيًا مُظْلِمًا بَلِيدَ الْفَهْمِ مُنَافِيًا لِقَبُولِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) وَاسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَسُؤَالَاتُ
الْمُعْتَزِلَةِ وَجَوَّابَاتُ أَصْحَابِنَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ) [ الْأَنْعَامِ : 125 ] .