أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=24أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ) فاعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة ، أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام ؛ كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23ومن يضلل الله فما له من هاد ) ، وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد ، وهو المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=24أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ) ، وتقريره : أن
nindex.php?page=treesubj&link=32475_35أشرف الأعضاء هو الوجه ، لأنه محل الحسن والصباحة ، وهو أيضا صومعة الحواس ، وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه ، وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=38وجوه يومئذ مسفرة nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=39ضاحكة مستبشرة nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=40ووجوه يومئذ عليها غبرة nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=41ترهقها قترة nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=42أولئك هم الكفرة الفجرة ) [ عبس : 38 – 42 ] ويقال لمقدم القوم : يا وجه العرب ، ويقال للطريق الدال على كنه حال الشيء : وجه كذا هو كذا ، فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه ، فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداء له ، وإذا عرفت هذا فنقول : إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه - لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء ، ونظيره قول
النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
أي : لا عيب فيهم إلا هذا ، وهو ليس بعيب ، فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه ، فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه ، وهذا ليس باتقاء ، فلا قدرة لهم على الاتقاء ألبتة ، ويقال أيضا : إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ، ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، إذا عرفت هذا فنقول : جوابه محذوف ، وتقديره : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره ، وسوء العذاب شدته .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=24وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ) ولما بين الله تعالى كيفية
nindex.php?page=treesubj&link=29468عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة بين أيضا كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=25كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) ، وهذا تنبيه على حال هؤلاء ؛ لأن الفاء في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=25فأتاهم العذاب ) تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب ، فإذا كان التكذيب حاصلا ههنا لزم حصول العذاب ؛ استدلالا بالعلة على المعلول ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=25من حيث لا يشعرون ) أي : من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها ، بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها ، ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضا أنه أتاهم الخزي ، وهو الذل والصغار والهوان ، والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقرونا بالهوان والذل .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=26ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره ، فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع ، والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب ، فلما ذكر الله تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب بين
[ ص: 240 ] تعالى أنه بلغت هذه البيانات إلى حد الكمال والتمام ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ) والمقصود ظاهر ، وقالت
المعتزلة : دلت الآية على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28787أفعال الله وأحكامه معللة ، ودلت أيضا على أنه يريد الإيمان والمعرفة من الكل ؛ لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27ولقد ضربنا للناس ) مشعر بالتعليل ، وقوله في آخر الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27لعلهم يتذكرون ) مشعر بالتعليل أيضا ، ومشعر بأن المقصود من ضرب هذه الأمثال إرادة حصول التذكر والعلم ، ولما كانت هذه البيانات النافعة والبينات الباهرة موجودة في القرآن ، لا جرم
nindex.php?page=treesubj&link=29568وصف القرآن بالمدح والثناء ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه :
الأول : أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ) يدل على أنه تعالى إنما ذكر هذه الأمثال ليحصل لهم التذكر ، والشيء الذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثا ، فإن القديم هو الذي يكون موجودا في الأزل ، وهذا يمتنع أن يقال : إنه إنما أتى به لغرض كذا وكذا .
والثاني : أنه وصفه بكونه عربيا ، وإنما كان عربيا لأن هذه الألفاظ إنما صارت دالة على هذه المعاني بوضع العرب وباصطلاحهم ، وما كان حصوله بسبب أوضاع العرب واصطلاحاتهم كان مخلوقا محدثا .
الثالث : أنه وصفه بكونه قرآنا ، والقرآن عبارة عن القراءة ، والقراءة مصدر ، والمصدر هو المفعول المطلق ، فكان فعلا ومفعولا ، والجواب : أنا نحمل كل هذه الوجوه على الحروف والأصوات ، وهي حادثة ومحدثة .
المسألة الثانية : قال
الزجاج : قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28عربيا ) منصوب على الحال ، والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ، ويجوز أن ينتصب على المدح .
المسألة الثالثة : أنه تعالى وصفه بثلاثة :
أولها : كونه قرآنا ، والمراد كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ الحجر : 9 ] .
وثانيها : كونه عربيا ، والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) [ الإسراء : 88 ] .
وثالثها : كونه (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28غير ذي عوج ) والمراد براءته عن التناقض ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ، وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28لعلهم يتقون ) ،
فالمعتزلة يتمسكون به في تعليل أحكام الله تعالى .
وفيه بحث آخر : وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27لعلهم يتذكرون ) ، وقال في هذه الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28لعلهم يتقون ) ، والسبب فيه أن التذكر متقدم على الاتقاء ، لأنه إذا تذكره وعرفه ووقف على فحواه وأحاط بمعناه ، حصل الاتقاء والاحتراز ، والله أعلم .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=24أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ بِحُكْمٍ فِي الدُّنْيَا وَبِحُكْمٍ فِي الْآخِرَةِ ، أَمَّا حُكْمُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الضَّلَالُ التَّامُّ ؛ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ، وَأَمَّا حُكْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=24أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ، وَتَقْرِيرُهُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32475_35أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ هُوَ الْوَجْهُ ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْحُسْنِ وَالصَّبَاحَةِ ، وَهُوَ أَيْضًا صَوْمَعَةُ الْحَوَاسِّ ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ بِسَبَبِ الْوَجْهِ ، وَأَثَرُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الْوَجْهِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=38وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=39ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=40وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=41تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=42أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) [ عَبَسَ : 38 – 42 ] وَيُقَالُ لِمُقَدَّمِ الْقَوْمِ : يَا وَجْهَ الْعَرَبِ ، وَيُقَالُ لِلطَّرِيقِ الدَّالِّ عَلَى كُنْهِ حَالِ الشَّيْءِ : وَجْهُ كَذَا هُوَ كَذَا ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ هُوَ الْوَجْهُ ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ يَدَهُ وِقَايَةً لِوَجْهِهِ وَفِدَاءً لَهُ ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : إِذَا كَانَ الْقَادِرُ عَلَى الِاتِّقَاءِ يَجْعَلُ كُلَّ مَا سِوَى الْوَجْهِ فِدَاءً لِلْوَجْهِ - لَا جَرَمَ حَسُنَ جَعْلُ الِاتِّقَاءِ بِالْوَجْهِ كِنَايَةً عَنِ الْعَجْزِ عَنِ الِاتِّقَاءِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ
النَّابِغَةِ :
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أَيْ : لَا عَيْبَ فِيهِمْ إِلَّا هَذَا ، وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْبٍ ، فَلَا عَيْبَ فِيهِمْ إِذَنْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، فَكَذَا هَهُنَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاتِّقَاءِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِالْوَجْهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِاتِّقَاءٍ ، فَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الِاتِّقَاءِ أَلْبَتَّةَ ، وَيُقَالُ أَيْضًا : إِنَّ الَّذِي يُلْقَى فِي النَّارِ يُلْقَى مَغْلُولَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ ، وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ إِلَّا بِوَجْهِهِ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ ، وَتَقْدِيرُهُ : أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَنْ هُوَ آمِنٌ مِنَ الْعَذَابِ ، فَحُذِفَ الْخَبَرُ كَمَا حُذِفَ فِي نَظَائِرِهِ ، وَسُوءُ الْعَذَابِ شِدَّتُهُ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=24وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ
nindex.php?page=treesubj&link=29468عَذَابِ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ أَيْضًا كَيْفِيَّةَ وُقُوعِهِمْ فِي الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=25كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ) ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى حَالِ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=25فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ ، فَإِذَا كَانَ التَّكْذِيبُ حَاصِلًا هَهُنَا لَزِمَ حُصُولُ الْعَذَابِ ؛ اسْتِدْلَالًا بِالْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=25مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ) أَيْ : مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي لَا يَحْسَبُونَ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ الشَّرَّ يَأْتِيهِمْ مِنْهَا ، بَيْنَمَا هُمْ آمِنُونَ إِذْ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَوَقَّعُوا الْأَمْنَ مِنْهَا ، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ أَتَاهُمُ الْخِزْيُ ، وَهُوَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْهَوَانُ ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْقَيْدِ أَنَّ الْعَذَابَ التَّامَّ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ الْأَلَمُ مَقْرُونًا بِالْهَوَانِ وَالذُّلِّ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=26وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) يَعْنِي أَنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَالْخِزْيُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَالْعَذَابُ الْمُدَّخَرُ لَهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ التَّخْوِيفُ وَالتَّرْهِيبُ ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْمُتَكَاثِرَةَ وَالنَّفَائِسَ الْمُتَوَافِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ بَيَّنَ
[ ص: 240 ] تَعَالَى أَنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) وَالْمَقْصُودُ ظَاهِرٌ ، وَقَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28787أَفْعَالَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ مِنَ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ ) مُشْعِرٌ بِالتَّعْلِيلِ ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) مُشْعِرٌ بِالتَّعْلِيلِ أَيْضًا ، وَمُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ضَرْبِ هَذِهِ الْأَمْثَالِ إِرَادَةُ حُصُولِ التَّذَكُّرِ وَالْعِلْمِ ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ النَّافِعَةُ وَالْبَيِّنَاتُ الْبَاهِرَةُ مَوْجُودَةً فِي الْقُرْآنِ ، لَا جَرَمَ
nindex.php?page=treesubj&link=29568وُصِفَ الْقُرْآنُ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ التَّذَكُّرُ ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ لِغَرَضٍ آخَرَ يَكُونُ مُحْدَثًا ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ ، وَهَذَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا ، وَإِنَّمَا كَانَ عَرَبِيًّا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إِنَّمَا صَارَتْ دَالَّةً عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِوَضْعِ الْعَرَبِ وَبِاصْطِلَاحِهِمْ ، وَمَا كَانَ حُصُولُهُ بِسَبَبِ أَوْضَاعِ الْعَرَبِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ كَانَ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا ، وَالْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ ، وَالْقِرَاءَةُ مَصْدَرٌ ، وَالْمَصْدَرُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ ، فَكَانَ فِعْلًا وَمَفْعُولًا ، وَالْجَوَابُ : أَنَّا نَحْمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ ، وَهِيَ حَادِثَةٌ وَمُحْدَثَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ
الزَّجَّاجُ : قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28عَرَبِيًّا ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ ، وَالْمَعْنَى ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ فِي حَالِ عَرَبِيَّتِهِ وَبَيَانِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْتَصَبَ عَلَى الْمَدْحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِثَلَاثَةٍ :
أَوَّلُهَا : كَوْنُهُ قُرْآنًا ، وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ مَتْلُوًّا فِي الْمَحَارِيبِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الْحِجْرِ : 9 ] .
وَثَانِيهَا : كَوْنُهُ عَرَبِيًّا ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْجَزَ الْفُصَحَاءَ وَالْبُلَغَاءَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [ الْإِسْرَاءِ : 88 ] .
وَثَالِثُهَا : كَوْنُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) وَالْمُرَادُ بَرَاءَتُهُ عَنِ التَّنَاقُضِ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ،
فَالْمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهِ فِي تَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَفِيهِ بَحْثٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=27لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=28لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ التَّذَكُّرَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاتِّقَاءِ ، لِأَنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَهُ وَعَرَفَهُ وَوَقَفَ عَلَى فَحْوَاهُ وَأَحَاطَ بِمَعْنَاهُ ، حَصَلَ الِاتِّقَاءُ وَالِاحْتِرَازُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .