(
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون )
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3nindex.php?page=treesubj&link=18282_29020إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) .
وفيه الحث على ما أرشدهم إليه من وجهين :
أحدهما : ظاهر لكل أحد ، وذلك في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3امتحن الله قلوبهم للتقوى ) وبيانه هو أن من يقدم نفسه ويرفع صوته يريد إكرام نفسه واحترام شخصه ، فقال تعالى ترك هذا الاحترام يحصل به حقيقة الاحترام ، وبالإعراض عن هذا الإكرام يكمل الإكرام ؛ لأن به تتبين تقواكم ، و (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ الحجرات : 13 ] ومن القبيح أن يدخل الإنسان حماما فيتخير لنفسه فيه منصبا ويفوت بسببه منصبه عند السلطان ، ويعظم نفسه في الخلاء والمستراح وبسببه يهون في الجمع العظيم ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3امتحن الله قلوبهم للتقوى ) فيه وجوه :
أحدها : امتحنها ليعلم منها التقوى ، فإن من يعظم واحدا من أبناء جنسه لكونه رسولا مرسلا يكون تعظيمه للمرسل أعظم وخوفه منه أقوى ، وهذا كما في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=32ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) [ الحج : 32 ] أي تعظيم أوامر الله من تقوى الله فكذلك تعظيم رسول الله من تقواه .
الثاني : امتحن أي علم وعرف ؛ لأن الامتحان تعرف الشيء ، فيجوز استعماله في معناه ، وعلى هذا فاللام تتعلق بمحذوف تقديره : عرف الله قلوبهم صالحة ، أي كائنة للتقوى ، كما يقول القائل : أنت لكذا أي صالح أو كائن .
الثالث : امتحن : أي أخلص يقال للذهب : ممتحن ، أي مخلص في النار وهذه الوجوه كلها مذكورة ويحتمل أن يقال : معناه امتحنها للتقوى اللام للتعليل ، وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون تعليلا يجري مجرى بيان السبب المتقدم ، كما يقول القائل : جئتك لإكرامك لي أمس ، أي صار ذلك الإكرام السابق سبب المجيء .
وثانيها : أن يكون تعليلا يجري مجرى بيان غاية المقصود المتوقع الذي يكون لاحقا لا سابقا ، كما يقول القائل : جئتك لأداء الواجب ، فإن قلنا بالأول فتحقيقه هو أن الله علم ما في قلوبهم من تقواه ، وامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها ، ولولا أن قلوبهم كانت
[ ص: 100 ] مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم ، بل كان يقول لهم : آمنوا برسولي ولا تؤذوه ولا تكذبوه ، فإن الكافر أول ما يؤمن يؤمن بالاعتراف بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - صادقا ، وبين من قيل له : لا تستهزئ برسول الله ، ولا تكذبه ، ولا تؤذه ، وبين من قيل له : لا ترفع صوتك عنده ولا تجعل لنفسك وزنا بين يديه ، ولا تجهر بكلامك الصادق بين يديه بون عظيم .
واعلم أن بقدر تقديمك للنبي عليه الصلاة والسلام على نفسك في الدنيا يكون تقديم النبي عليه الصلاة والسلام إياك في العقبى ، فإنه لن يدخل أحد الجنة ما لم يدخل الله أمته المتقين الجنة ، فإن قلنا بالثاني فتحقيقه هو أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله بالتقوى ، أي ليرزقهم الله التقوى التي هي حق التقاة ، وهي التي لا تخشى مع خشية الله أحدا ، فتراه آمنا من كل مخيف لا يخاف في الدنيا بخسا ، ولا يخاف في الآخرة نحسا ، والناظر العاقل إذا علم أن بالخوف من السلطان يأمن جور الغلمان ، وبتجنب الأراذل ينجو من بأس السلطان ، فيجعل خوف السلطان جنة ، فكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=19988العالم لو أمعن النظر لعلم أن بخشية الله النجاة في الدارين ، وبالخوف من غيره الهلاك فيهما ، فيجعل خشية الله جنته التي يحس بها نفسه في الدنيا والآخرة .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3لهم مغفرة وأجر عظيم ) .
وقد ذكرنا أن المغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس ، والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس ، فيزيل الله عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4nindex.php?page=treesubj&link=23683_29020إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) .
بيانا لحال من كان في مقابلة من تقدم فإن الأول غض صوته والآخر رفعه ، وفيه إشارة إلى أنه ترك لأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة عليه ، وأما قول القائل للملك : يا فلان من سوء الأدب ، فإن قلت : كل أحد يقول : يا الله ، مع أن الله أكبر ، نقول : النداء على قسمين : أحدهما : لتنبيه المنادى ، وثانيهما : لإظهار حاجة المنادي ، مثال الأول : قول القائل لرفيقه أو غلامه : يا فلان ، ومثال الثاني: قول القائل في الندبة : يا أمير المؤمناه أو يا زيداه ، ولقائل أن يقول : إن كان زيد بالمشرق لا تنبيه فإنه محال ، فكيف يناديه وهو ميت ؟ فنقول : قولنا : يا الله لإظهار حاجة الأنفس لا لتنبيه المنادى ، وإنما كان في النداء الأمران جميعا ؛ لأن المنادي لا ينادي إلا لحاجة في نفسه يعرضها ، ولا ينادي في الأكثر إلا معرضا أو غافلا ، فحصل في النداء الأمران ، ونداؤهم كان للتنبيه ، وهو سوء أدب ، وأما قول أحدنا للكبير : يا سيدي ويا مولاي ، فهو جار مجرى الوصف والإخبار . الثاني : النداء من وراء الحجرات ، فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المشي والمجيء ، بل يجيبه من مكانه ويكلمه ، ولا يطلب المنادي إلا لالتفات المنادى إليه ، ومن ينادي غيره من وراء الحائل فكأنه يريد منه حضوره ، كمن ينادي صاحب البستان من خارج البستان . الثالث : قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4الحجرات ) إشارة إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلوته التي لا يحسن في الأدب إتيان المحتاج إليه في حاجته في ذلك الوقت ، بل الأحسن التأخير وإن كان في ورطة الحاجة ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4أكثرهم لا يعقلون ) فيه بيان المعايب بقدر ما في سوء أدبهم من القبائح ؛ وذلك لأن الكلام من خواص الإنسان ، وهو أعلى مرتبة من غيره ، وليس لمن دونه كلام ، لكن النداء في المعنى كالتنبيه ، وقد يحصل بصوت يضرب شيء على شيء ، وفي الحيوانات العجم ما يظهر
[ ص: 101 ] لكل أحد كالنداء ، فإن الشاة تصيح وتطلب ولدها ، وكذلك غيرها من الحيوانات ، والسخلة كذلك ، فكأن النداء حصل في المعنى لغير الآدمي ، فقال الله تعالى في حقهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4أكثرهم لا يعقلون ) يعني النداء الصادر منهم لما لم يكن مقرونا بحسن الأدب كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل ، وكان نداؤهم كصياح صدر من بعض الحيوان ، وقوله تعالى : ( أكثرهم ) فيه وجهان :
أحدهما : أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل ، وإنما تأتي بالأكثر احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام ؛ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=19005_18981الكذب مما يحبط به عمل الإنسان في بعض الأشياء ، فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل . ثم إن الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم ، وفيه إشارة إلى لطيفة ، وهي أن الله تعالى يقول : أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحسانا لتلك العادة ، وهي الاحتراز عن الكذب ، فلا تتركوها ، واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلا قاطعا على رضائي بذلك .
وثانيهما : أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون ، وتحقيق هذا هو أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني ، مثاله الإنسان يكون جاهلا وفقيرا فيصير عالما وغنيا ، فيقال في العرف : زيد ليس هو الذي رأيته من قبل ، بل الآن على أحسن حال ، فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا . إذا علم هذا فهم في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها ، فقال تعالى : ( أكثرهم ) إشارة إلى ما ذكرناه ، وفيه وجه ثالث ، وهو أن يقال : لعل منهم من رجع عن تلك الأهواء ، ومنهم من استمر على تلك العادة الرديئة ، فقال أكثرهم إخراجا لمن ندم منهم عنهم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3nindex.php?page=treesubj&link=18282_29020إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) .
وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ مَنْ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ يُرِيدُ إِكْرَامَ نَفْسِهِ وَاحْتِرَامَ شَخْصِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى تَرْكُ هَذَا الِاحْتِرَامِ يَحْصُلُ بِهِ حَقِيقَةُ الِاحْتِرَامِ ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنْ هَذَا الْإِكْرَامِ يَكْمُلُ الْإِكْرَامُ ؛ لِأَنَّ بِهِ تَتَبَيَّنُ تَقْوَاكُمْ ، وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [ الْحُجُرَاتِ : 13 ] وَمِنَ الْقَبِيحِ أَنْ يَدْخُلَ الْإِنْسَانُ حَمَّامًا فَيَتَخَيَّرُ لِنَفْسِهِ فِيهِ مَنْصِبًا وَيُفَوِّتُ بِسَبَبِهِ مَنْصِبَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ ، وَيُعَظِّمُ نَفْسَهُ فِي الْخَلَاءِ وَالْمُسْتَرَاحِ وَبِسَبَبِهِ يَهُونُ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) فِيهِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : امْتَحَنَهَا لِيَعْلَمَ مِنْهَا التَّقْوَى ، فَإِنَّ مَنْ يُعَظِّمُ وَاحِدًا مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ لِكَوْنِهِ رَسُولًا مُرْسَلًا يَكُونُ تَعْظِيمُهُ لِلْمُرْسِلِ أَعْظَمَ وَخَوْفُهُ مِنْهُ أَقْوَى ، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=32وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) [ الْحَجِّ : 32 ] أَيْ تَعْظِيمُ أَوَامِرِ اللَّهِ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ فَكَذَلِكَ تَعْظِيمُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ تَقْوَاهُ .
الثَّانِي : امْتَحَنَ أَيْ عَلِمَ وَعَرَفَ ؛ لِأَنَّ الِامْتِحَانَ تَعَرُّفُ الشَّيْءِ ، فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنَاهُ ، وَعَلَى هَذَا فَاللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ : عَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ صَالِحَةً ، أَيْ كَائِنَةً لِلتَّقْوَى ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : أَنْتَ لِكَذَا أَيْ صَالِحٌ أَوْ كَائِنٌ .
الثَّالِثُ : امْتَحَنَ : أَيْ أَخْلَصَ يُقَالُ لِلذَّهَبِ : مُمْتَحَنٌ ، أَيْ مُخْلَصٌ فِي النَّارِ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مَذْكُورَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : مَعْنَاهُ امْتَحَنَهَا لِلتَّقْوَى اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا يَجْرِي مَجْرَى بَيَانِ السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : جِئْتُكَ لِإِكْرَامِكَ لِي أَمْسِ ، أَيْ صَارَ ذَلِكَ الْإِكْرَامُ السَّابِقُ سَبَبَ الْمَجِيءِ .
وَثَانِيهَا : أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا يَجْرِي مَجْرَى بَيَانِ غَايَةِ الْمَقْصُودِ الْمُتَوَقَّعِ الَّذِي يَكُونُ لَاحِقًا لَا سَابِقًا ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : جِئْتُكَ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَقْوَاهُ ، وَامْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى الَّتِي كَانَتْ فِيهَا ، وَلَوْلَا أَنَّ قُلُوبَهُمْ كَانَتْ
[ ص: 100 ] مَمْلُوءَةً مِنَ التَّقْوَى لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَعْظِيمِ رَسُولِهِ وَتَقْدِيمِ نَبِيِّهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، بَلْ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ : آمِنُوا بِرَسُولِي وَلَا تُؤْذُوهُ وَلَا تُكَذِّبُوهُ ، فَإِنَّ الْكَافِرَ أَوَّلَ مَا يُؤْمِنُ يُؤْمِنُ بِالِاعْتِرَافِ بِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَادِقًا ، وَبَيْنَ مَنْ قِيلَ لَهُ : لَا تَسْتَهْزِئْ بِرَسُولِ اللَّهِ ، وَلَا تُكَذِّبْهُ ، وَلَا تُؤْذِهِ ، وَبَيْنَ مَنْ قِيلَ لَهُ : لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عِنْدَهُ وَلَا تَجْعَلْ لِنَفْسِكَ وَزْنًا بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَا تَجْهَرْ بِكَلَامِكَ الصَّادِقِ بَيْنَ يَدَيْهِ بَوْنٌ عَظِيمٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ بِقَدْرِ تَقْدِيمِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَفْسِكَ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ تَقْدِيمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِيَّاكَ فِي الْعُقْبَى ، فَإِنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ مَا لَمْ يُدْخِلِ اللَّهُ أُمَّتَهُ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ ، فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ بِالتَّقْوَى ، أَيْ لِيَرْزُقَهُمُ اللَّهُ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ حَقُّ التُّقَاةِ ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْشَى مَعَ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَدًا ، فَتَرَاهُ آمِنًا مِنْ كُلِّ مُخِيفٍ لَا يَخَافُ فِي الدُّنْيَا بَخْسًا ، وَلَا يَخَافُ فِي الْآخِرَةِ نَحْسًا ، وَالنَّاظِرُ الْعَاقِلُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ بِالْخَوْفِ مِنَ السُّلْطَانِ يَأْمَنُ جَوْرَ الْغِلْمَانِ ، وَبِتَجَنُّبِ الْأَرَاذِلِ يَنْجُو مِنْ بَأْسِ السُّلْطَانِ ، فَيَجْعَلُ خَوْفَ السُّلْطَانِ جُنَّةً ، فَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=19988الْعَالِمُ لَوْ أَمْعَنَ النَّظَرَ لَعَلِمَ أَنَّ بِخَشْيَةِ اللَّهِ النَّجَاةَ فِي الدَّارَيْنِ ، وَبِالْخَوْفِ مِنْ غَيْرِهِ الْهَلَاكَ فِيهِمَا ، فَيَجْعَلُ خَشْيَةَ اللَّهِ جُنَّتَهُ الَّتِي يُحِسُّ بِهَا نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=3لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِزَالَةُ السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا لَازِمَةٌ لِلنَّفْسِ ، وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَيَاةِ الَّتِي هِيَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الدُّنْيَا عَنِ النَّفْسِ ، فَيُزِيلُ اللَّهُ عَنْهُ الْقَبَائِحَ الْبَهِيمِيَّةَ وَيُلْبِسُهُ الْمَحَاسِنَ الْمَلَكِيَّةَ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4nindex.php?page=treesubj&link=23683_29020إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) .
بَيَانًا لِحَالِ مَنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْأَوَّلَ غَضَّ صَوْتَهُ وَالْآخَرَ رَفْعَهُ ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَرْكٌ لِأَدَبِ الْحُضُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَرْضُ الْحَاجَةِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ لِلْمَلِكِ : يَا فُلَانُ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ ، فَإِنْ قُلْتَ : كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ : يَا اللَّهُ ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَكْبَرُ ، نَقُولُ : النِّدَاءُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِتَنْبِيهِ الْمُنَادَى ، وَثَانِيهِمَا : لِإِظْهَارِ حَاجَةِ الْمُنَادِي ، مِثَالُ الْأَوَّلِ : قَوْلُ الْقَائِلِ لِرَفِيقِهِ أَوْ غُلَامِهِ : يَا فُلَانُ ، وَمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُ الْقَائِلِ فِي النُّدْبَةِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنَاهُ أَوْ يَا زَيْدَاهُ ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَانَ زَيْدٌ بِالْمَشْرِقِ لَا تَنْبِيهَ فَإِنَّهُ مُحَالٌ ، فَكَيْفَ يُنَادِيهِ وَهُوَ مَيِّتٌ ؟ فَنَقُولُ : قَوْلُنَا : يَا اللَّهُ لِإِظْهَارِ حَاجَةِ الْأَنْفُسِ لَا لِتَنْبِيهِ الْمُنَادَى ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي النِّدَاءِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمُنَادِيَ لَا يُنَادِي إِلَّا لِحَاجَةٍ فِي نَفْسِهِ يَعْرِضُهَا ، وَلَا يُنَادِي فِي الْأَكْثَرِ إِلَّا مُعْرِضًا أَوْ غَافِلًا ، فَحَصَلَ فِي النِّدَاءِ الْأَمْرَانِ ، وَنِدَاؤُهُمْ كَانَ لِلتَّنْبِيهِ ، وَهُوَ سُوءُ أَدَبٍ ، وَأَمَّا قَوْلُ أَحَدِنَا لِلْكَبِيرِ : يَا سَيِّدِي وَيَا مَوْلَايَ ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ وَالْإِخْبَارِ . الثَّانِي : النِّدَاءُ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ، فَإِنَّ مَنْ يُنَادِي غَيْرَهُ وَلَا حَائِلَ بَيْنَهُمَا لَا يُكَلِّفُهُ الْمَشْيَ وَالْمَجِيءَ ، بَلْ يُجِيبُهُ مِنْ مَكَانِهِ وَيُكَلِّمُهُ ، وَلَا يَطْلُبُ الْمُنَادِي إِلَّا لِالْتِفَاتِ الْمُنَادَى إِلَيْهِ ، وَمَنْ يُنَادِي غَيْرَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِلِ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ مِنْهُ حُضُورَهُ ، كَمَنْ يُنَادِي صَاحِبَ الْبُسْتَانِ مِنْ خَارِجِ الْبُسْتَانِ . الثَّالِثُ : قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4الْحُجُرَاتِ ) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَلْوَتِهِ الَّتِي لَا يَحْسُنُ فِي الْأَدَبِ إِتْيَانُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي حَاجَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، بَلِ الْأَحْسَنُ التَّأْخِيرُ وَإِنْ كَانَ فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) فِيهِ بَيَانُ الْمَعَايِبِ بِقَدْرِ مَا فِي سُوءِ أَدَبِهِمْ مِنَ الْقَبَائِحِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ ، وَهُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ لِمَنْ دُونَهُ كَلَامٌ ، لَكِنَّ النِّدَاءَ فِي الْمَعْنَى كَالتَّنْبِيهِ ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِصَوْتٍ يُضْرَبُ شَيْءٌ عَلَى شَيْءٍ ، وَفِي الْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمُ مَا يَظْهَرُ
[ ص: 101 ] لِكُلِّ أَحَدٍ كَالنِّدَاءِ ، فَإِنَّ الشَّاةَ تَصِيحُ وَتَطْلُبُ وَلَدَهَا ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ ، وَالسَّخْلَةُ كَذَلِكَ ، فَكَأَنَّ النِّدَاءَ حَصَلَ فِي الْمَعْنَى لِغَيْرِ الْآدَمِيِّ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=4أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) يَعْنِي النِّدَاءَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِحُسْنِ الْأَدَبِ كَانُوا فِيهِ خَارِجِينَ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ يَعْقِلُ ، وَكَانَ نِدَاؤُهُمْ كَصِيَاحٍ صَدَرَ مِنْ بَعْضِ الْحَيَوَانِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( أَكْثَرُهُمْ ) فِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْأَكْثَرَ وَتُرِيدُ الْكُلَّ ، وَإِنَّمَا تَأْتِي بِالْأَكْثَرِ احْتِرَازًا عَنِ الْكَذِبِ وَاحْتِيَاطًا فِي الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19005_18981الْكَذِبَ مِمَّا يَحْبَطُ بِهِ عَمَلُ الْإِنْسَانِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ ، فَيَقُولُ الْأَكْثَرَ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُلُّ . ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْأُمُورِ أَتَى بِمَا يُنَاسِبُ كَلَامَهُمْ ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : أَنَا مَعَ إِحَاطَةِ عِلْمِي بِكُلِّ شَيْءٍ جَرَيْتُ عَلَى عَادَتِكُمُ اسْتِحْسَانًا لِتِلْكَ الْعَادَةِ ، وَهِيَ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْكَذِبِ ، فَلَا تَتْرُكُوهَا ، وَاجْعَلُوا اخْتِيَارِي ذَلِكَ فِي كَلَامِي دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى رِضَائِي بِذَلِكَ .
وَثَانِيهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ لَا يَعْقِلُونَ ، وَتَحْقِيقُ هَذَا هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اعْتَبَرَ مَعَ وَصْفٍ ثُمَّ اعْتَبَرَ مَعَ وَصْفٍ آخَرَ يَكُونُ الْمَجْمُوعُ الْأَوَّلُ غَيْرَ الْمَجْمُوعِ الثَّانِي ، مِثَالُهُ الْإِنْسَانُ يَكُونُ جَاهِلًا وَفَقِيرًا فَيَصِيرُ عَالِمًا وَغَنِيًّا ، فَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ : زَيْدٌ لَيْسَ هُوَ الَّذِي رَأَيْتُهُ مِنْ قَبْلُ ، بَلِ الْآنَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ ، فَيَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا . إِذَا عُلِمَ هَذَا فَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إِذَا اعْتَبَرْتَهُمْ مَعَ تِلْكَ الْحَالَةِ مُغَايِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ إِذَا اعْتَبَرْتَهُمْ مَعَ غَيْرِهَا ، فَقَالَ تَعَالَى : ( أَكْثَرُهُمْ ) إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : لَعَلَّ مِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ عَنْ تِلْكَ الْأَهْوَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ إِخْرَاجًا لِمَنْ نَدِمَ مِنْهُمْ عَنْهُمْ .