الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            : ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            يعني : الكافرون والمنافقون لا ينظرون إلا الساعة ، وذلك لأن البراهين قد صحت والأمور قد اتضحت وهم لم يؤمنوا فلا يتوقع منهم الإيمان إلا عند قيام الساعة وهو من قبيل بدل الاشتمال على تقدير لا ينظرون [ ص: 53 ] إلا الساعة إتيانها بغتة ، وقرئ : ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم ) على الشرط ، وجزاؤه لا ينفعهم ذكراهم ، يدل عليه قوله تعالى : ( فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ) ، وقد ذكرنا أن القيامة سميت بالساعة لساعة الأمور الواقعة فيها من البعث والحشر والحساب .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( فقد جاء أشراطها ) يحتمل وجهين أحدهما : لبيان غاية عنادهم وتحقيقه هو أن الدلائل لما ظهرت ولم يؤمنوا لم يبق إلا إيمان اليأس وهو عند قيام الساعة لكن أشراطها بانت فكان ينبغي أن يؤمنوا ولم يؤمنوا فهم في لجة الفساد وغاية العناد . ثانيهما : يكون لتسلية قلوب المؤمنين كأنه تعالى لما قال : ( فهل ينظرون ) فهم منه تعذيبهم ، والساعة عند العوام مستبطأة فكأن قائلا قال : متى الساعة ؟ فقد جاء أشراطها ، كقوله تعالى : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) [القمر : 1] والأشراط العلامات ، قال المفسرون : هي مثل انشقاق القمر ورسالة محمد عليه السلام ، ويحتمل أن يقال : معنى الأشراط البينات الموضحة لجواز الحشر ، مثل خلق الإنسان ابتداء وخلق السماوات والأرض ، كما قال تعالى : ( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) [يس : 81] والأول هو التفسير .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ) يعني لا تنفعهم الذكرى إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الإيمان ، والمراد فكيف لهم الحال إذا جاءتهم ذكراهم ، ومعنى ذلك يحتمل أن يكون هو قوله تعالى : ( هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) [الأنبياء : 103] : ( هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ) [الصافات : 21] فيذكرون به للتحسر ، وكذلك قوله تعالى : ( ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) [الزمر : 71] .

                                                                                                                                                                                                                                            : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) ولبيان المناسبة وجوه

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : هو أنه تعالى لما قال : ( فقد جاء أشراطها ) قال : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) يأتي بالساعة ، كما قال تعالى : ( أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة ) [النجم : 57] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : ( فقد جاء أشراطها ) وهي آتية فكأن قائلا قال : متى هذا ؟ فقال : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) فلا تشتغل به واشتغل بما عليك من الاستغفار ، وكن في أي وقت مستعدا للقائها ويناسبه قوله تعالى : ( واستغفر لذنبك ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) ينفعك ، فإن قيل : النبي عليه الصلاة والسلام كان عالما بذلك فما معنى الأمر ، نقول عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : فاثبت على ما أنت عليه من العلم كقول القائل لجالس يريد القيام : اجلس أي لا تقم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيهما : الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام ، والمراد قومه والضمير في أنه للشأن ، وتقدير هذا : هو أنه عليه السلام لما دعا القوم إلى الإيمان ولم يؤمنوا ولم يبق شيء يحملهم على الإيمان إلا ظهور الأمر بالبعث والنشور ، وكان ذلك مما يحزن النبي عليه الصلاة والسلام ، فسلى قلبه وقال : أنت كامل في نفسك مكمل لغيرك فإن لم يكمل بك قوم لم يرد الله تعالى بهم خيرا فأنت في نفسك عامل بعلمك ، وعلمك حيث تعلم أن الله واحد وتستغفر ، وأنت بحمد الله مكمل تكمل المؤمنين والمؤمنات وأنت تستغفر لهم ، فقد حصل لك الوصفان ، فاثبت على ما أنت عليه ، ولا يحزنك كفرهم ، وقوله تعالى : ( واستغفر لذنبك ) يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون الخطاب معه ، والمراد المؤمنون وهو بعيد لإفراد المؤمنين والمؤمنات بالذكر . وقال بعض الناس : ( لذنبك ) أي لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات أي الذين ليسوا منك بأهل بيت .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 54 ] وثانيهما : المراد هو النبي والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحاشاه من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : وجه حسن مستنبط وهو أن المراد توفيق العمل الحسن واجتناب العمل السيئ ، ووجهه أن الاستغفار طلب الغفران ، والغفران هو الستر على القبيح ، ومن عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى ، ومعنى طلب الغفران أن لا تفضحنا وذلك قد يكون بالعصمة منه فلا يقع فيه كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد يكون بالستر عليه بعد الوجود كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات ، وفي هذه الآية لطيفة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم له أحوال ثلاثة : حال مع الله ، وحال مع نفسه ، وحال مع غيره ، فأما مع الله وحده ، وأما مع نفسك فاستغفر لذنبك واطلب العصمة من الله ، وأما مع المؤمنين فاستغفر لهم واطلب الغفران لهم من الله : ( والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) يعني حالكم في الدنيا وفي الآخرة وحالكم في الليل والنهار .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية