وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=5لما جاءهم ) في الجائي وجهان :
أحدهما : أنه هو المكذب ، تقديره : كذبوا بالحق لما جاءهم الحق ، أي لم يؤخروه إلى الفكر والتدبر .
ثانيهما : الجائي ههنا هو الجائي في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=2بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ) تقديره : كذبوا بالحق لما جاءهم المنذر ، والأول لا يصح على قولنا : الحق وهو الرجع ، لأنهم لا يكذبون به وقت المجيء ، بل يقولون : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=52هذا ما وعد الرحمن ) [ يس : 52 ] .
وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=5فهم في أمر مريج ) أي مختلف مختلط ، قال
الزجاج وغيره : لأنهم تارة يقولون : ساحر ، وأخرى شاعر ، وطورا ينسبونه إلى الكهانة ، وأخرى إلى الجنون ، والأصح أن يقال : هذا بيان الاختلاف المذكور في الآيات ، وذلك لأن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=2بل عجبوا ) يدل على أمر سابق أضرب عنه ، وقد ذكرنا أنه الشك وتقديره : والقرآن المجيد إنك لمنذر ، وإنهم شكوا فيك ، بل عجبوا ، بل كذبوا . وهذه مراتب ثلاث ، الأولى : الشك ، وفوقها التعجب ؛ لأن الشاك يكون الأمران عنده سيين ، والمتعجب يترجح عنده اعتقاد عدم وقوع العجيب ، لكنه لا يقطع به ، والمكذب الذي يجزم بخلاف ذلك ، فكأنهم كانوا شاكين وصاروا ظانين وصاروا جازمين ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=5nindex.php?page=treesubj&link=29021فهم في أمر مريج ) ويدل عليه الفاء في قوله : ( فهم ) لأنه حينئذ يصير كونهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=5في أمر مريج ) مرتبا على ما تقدم ، وفيما ذكروه لا يكون مرتبا . فإن قيل : المريج ، المختلط ، وهذه أمور مرتبة متميزة على مقتضى العقل ؛ لأن الشاك ينتهي إلى درجة الظن ، والظان ينتهي إلى درجة القطع ، وعند القطع لا يبقى الظن ، وعند الظن لا يبقى الشك ، وأما ما ذكروه ففيه يحصل الاختلاط ؛ لأنهم لم يكن لهم في ذلك ترتيب ، بل تارة كانوا يقولون : كاهن ، وأخرى مجنون ، ثم كانوا يعودون إلى نسبته إلى الكهانة بعد نسبته إلى الجنون ، وكذا إلى الشعر بعد السحر ، وإلى السحر بعد الشعر ، فهذا هو المريج . نقول : كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بين أظهرهم ، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرة على يديه ولسانه ، فلما غيروا الترتيب حصل عليه المرج ووقع الدرك مع المرج ، وأما ما ذكروه فاللائق به تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=8إنكم لفي قول مختلف ) [ الذاريات : 8 ] لأن ما كان يصدر منهم في حقه كان قولا مختلفا ، وأما الشك والظن والجزم فأمور مختلفة ، وفيه لطيفة وهي أن إطلاق لفظ المريج على ظنهم وقطعهم ينبئ عن عدم كون ذلك الجزم صحيحا ؛ لأن الجزم الصحيح لا يتغير ، وكان ذلك منهم واجب التغير ، فكان أمرهم مضطربا ، بخلاف المؤمن الموفق ، فإنه لا يقع في اعتقاده تردد ، ولا يوجد في معتقده تعدد .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=29021_19785_28760أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) .
إشارة إلى الدليل الذي يدفع قولهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=3ذلك رجع بعيد ) وهذا كما في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=81أوليس الذي خلق )
[ ص: 134 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=81السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) [ يس : 80 ] وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) [ غافر : 57 ] وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=33أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى ) [ الأحقاف : 33 ] وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=34077همزة الاستفهام تارة تدخل على الكلام ولا واو فيه ، وتارة تدخل عليه وبعدها واو ، فهل بين الحالتين فرق ؟
نقول : فرق أدق مما على الفرق ، وهو أن يقول القائل : أزيد في الدار بعد وقد طلعت الشمس ؟ يذكره للإنكار ، فإذا قال : أوزيدا في الدار بعد وقد طلعت الشمس ؟ يشير بالواو إشارة خفية إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين ، كأنه يقول بعدما سمع ممن صدر عن زيد هو في الدار : أغفل وهو في الدار بعد ؛ لأن الواو تنبئ عن ضيف أمر مغاير لما بعدها وإن لم يكن هناك سابق ، لكنه يومئ بالواو إليه زيادة في الإنكار ، فإن قيل : قال في موضع (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=185أولم ينظروا ) [ الأعراف : 185 ] وقال ههنا (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أفلم ينظروا ) بالفاء ، فما الفرق ؟ نقول : ههنا سبق منهم إنكار الرجع ، فقال بحرف التعقيب بمخالفه ، فإن قيل : ففي " يس " سبق ذلك بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=78قال من يحيي العظام ) [ يس : 78 ] ؟ نقول : هناك الاستدلال بالسماوات لما لم يعقب الإنكار على عقيب الإنكار استدل بدليل آخر ، وهو قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=79قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) [ يس : 79 ] ثم ذكر الدليل الآخر ، وههنا الدليل كان عقيب الإنكار ، فذكر بالفاء ، وأما قوله ههنا بلفظ النظر وفي الأحقاف بلفظ الرؤية ففيه لطيفة ، وهي أنهم ههنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=3ذلك رجع بعيد ) استبعد استبعادهم ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أفلم ينظروا إلى السماء ) لأن النظر دون الرؤية ، فكأن النظر كان في حصول العلم بإنكار الرجع ولا حاجة إلى الرؤية ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستبعاد ، وهناك لم يوجد منهم بإنكار مذكور فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتم من النظر ، ثم إنه تعالى كمل ذلك وجمله بقوله : ( إلى السماء ) ولم يقل : في السماء ؛ لأن النظر في الشيء ينبئ عن التأمل والمبالغة ، والنظر إلى الشيء ينبئ عنه ؛ لأن " إلى " للغاية ، فينتهي النظر عنده في الدخول في معنى الظرف ، فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى الظرفية ، وقوله تعالى : ( فوقهم ) تأكيد آخر ، أي وهو ظاهر فوق رؤوسهم غير غائب عنهم ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) إشارة إلى وجه الدلالة وأولوية الوقوع وهي للرجع ، أما وجه الدلالة فإن الإنسان له أساس ، هي العظام التي هي كالدعامة ، وقوى وأنوار كالسمع والبصر ، فبناء السماء أرفع من أساس البدن ، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم . وأما الأولوية فإن السماء ما لها من فروج فتأليفها أشد ، وللإنسان فروج ومسام ، ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف ، والأول أصعب عند الناس وأعجب ، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى ؟ قالت الفلاسفة : الآية دالة على أن السماء لا تقبل الخرق ، وكذلك قالوا في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=3هل ترى من فطور ) [ الملك : 3 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=12سبعا شدادا ) [ النبأ : 12 ] وتعسفوا فيه لأن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6وما لها من فروج ) صريح في عدم ذلك ، والإخبار عن عدم الشيء لا يكون إخبارا عن عدم إمكانه ، فإن من قال : " ما لفلان فال " ، لا يدل على نفي إمكانه ، ثم إنه تعالى بين خلاف قولهم بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=9وإذا السماء فرجت ) [ المرسلات : 9 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=82&ayano=1إذا السماء انفطرت ) [ الانفطار : 1 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=16فهي يومئذ واهية ) [ الحاقة : 16 ] في مقابلة قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=12سبعا شدادا ) [ النبأ : 12 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=37فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ) [ الرحمن : 37 ] إلى غير ذلك ، والكل في الرد عليهم صريح ، وما ذكروه في الدلالة ليس بظاهر ، بل وليس له دلالة خفية أيضا ، وأما دليلهم المعقول فأضعف وأسخف من
[ ص: 135 ] تمسكهم بالمنقول .
وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=5لَمَّا جَاءَهُمْ ) فِي الْجَائِي وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ هُوَ الْمُكَذِّبُ ، تَقْدِيرُهُ : كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ ، أَيْ لَمْ يُؤَخِّرُوهُ إِلَى الْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ .
ثَانِيهُمَا : الْجَائِي هَهُنَا هُوَ الْجَائِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=2بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) تَقْدِيرُهُ : كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمُ الْمُنْذِرُ ، وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِنَا : الْحَقُّ وَهُوَ الرَّجْعُ ، لِأَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ بِهِ وَقْتَ الْمَجِيءِ ، بَلْ يَقُولُونَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=52هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ ) [ يس : 52 ] .
وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=5فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) أَيْ مُخْتَلِفٍ مُخْتَلِطٍ ، قَالَ
الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ : لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَقُولُونَ : سَاحِرٌ ، وَأُخْرَى شَاعِرٌ ، وَطَوْرًا يَنْسِبُونَهُ إِلَى الْكِهَانَةِ ، وَأُخْرَى إِلَى الْجُنُونِ ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ : هَذَا بَيَانُ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=2بَلْ عَجِبُوا ) يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ سَابِقٍ أُضْرِبَ عَنْهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الشَّكُّ وَتَقْدِيرُهُ : وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِنَّكَ لَمُنْذِرٌ ، وَإِنَّهُمْ شَكُّوا فِيكَ ، بَلْ عَجِبُوا ، بَلْ كَذَّبُوا . وَهَذِهِ مَرَاتِبُ ثَلَاثٌ ، الْأُولَى : الشَّكُّ ، وَفَوْقَهَا التَّعَجُّبُ ؛ لِأَنَّ الشَّاكَّ يَكُونُ الْأَمْرَانِ عِنْدَهُ سِيَّيْنِ ، وَالْمُتَعَجِّبَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ اعْتِقَادُ عَدَمِ وُقُوعِ الْعَجِيبِ ، لَكِنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِهِ ، وَالْمُكَذِّبُ الَّذِي يَجْزِمُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ وَصَارُوا ظَانِّينَ وَصَارُوا جَازِمِينَ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=5nindex.php?page=treesubj&link=29021فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ : ( فَهُمْ ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ كَوْنُهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=5فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) مُرَتَّبًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَفِيمَا ذَكَرُوهُ لَا يَكُونُ مُرَتَّبًا . فَإِنْ قِيلَ : الْمَرِيجُ ، الْمُخْتَلِطُ ، وَهَذِهِ أُمُورٌ مُرَتَّبَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الشَّاكَّ يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَةِ الظَّنِّ ، وَالظَّانَّ يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَةِ الْقَطْعِ ، وَعِنْدَ الْقَطْعِ لَا يَبْقَى الظَّنُّ ، وَعِنْدَ الظَّنِّ لَا يَبْقَى الشَّكُّ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فَفِيهِ يَحْصُلُ الِاخْتِلَاطُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبٌ ، بَلْ تَارَةً كَانُوا يَقُولُونَ : كَاهِنٌ ، وَأُخْرَى مَجْنُونٌ ، ثُمَّ كَانُوا يَعُودُونَ إِلَى نِسْبَتِهِ إِلَى الْكِهَانَةِ بَعْدَ نِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ ، وَكَذَا إِلَى الشِّعْرِ بَعْدَ السِّحْرِ ، وَإِلَى السِّحْرِ بَعْدَ الشِّعْرِ ، فَهَذَا هُوَ الْمَرِيجُ . نَقُولُ : كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ الشَّكِّ إِلَى الظَّنِّ بِصِدْقِهِ لِعِلْمِهِمْ بِأَمَانَتِهِ وَاجْتِنَابِهِ الْكَذِبَ طُولَ عُمُرِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، وَمِنَ الظَّنِّ إِلَى الْقَطْعِ بِصِدْقِهِ لِظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدَيْهِ وَلِسَانِهِ ، فَلَمَّا غَيَّرُوا التَّرْتِيبَ حَصَلَ عَلَيْهِ الْمَرَجُ وَوَقَعَ الدَّرَكُ مَعَ الْمَرَجِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فَاللَّائِقُ بِهِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=8إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ) [ الذَّارِيَاتِ : 8 ] لِأَنَّ مَا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ كَانَ قَوْلًا مُخْتَلِفًا ، وَأَمَّا الشَّكُّ وَالظَّنُّ وَالْجَزْمُ فَأُمُورٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْمَرِيجِ عَلَى ظَنِّهِمْ وَقَطْعِهِمْ يُنْبِئُ عَنْ عَدَمِ كَوْنِ ذَلِكَ الْجَزْمِ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ الْجَزْمَ الصَّحِيحَ لَا يَتَغَيَّرُ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاجِبَ التَّغَيُّرِ ، فَكَانَ أَمْرُهُمْ مُضْطَرِبًا ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ الْمُوَفَّقِ ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ فِي اعْتِقَادِهِ تَرَدُّدٌ ، وَلَا يُوجَدُ فِي مُعْتَقَدِهِ تَعَدُّدٌ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=29021_19785_28760أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) .
إِشَارَةً إِلَى الدَّلِيلِ الَّذِي يَدْفَعُ قَوْلَهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=3ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=81أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ )
[ ص: 134 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=81السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) [ يس : 80 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) [ غَافِرٍ : 57 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=33أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى ) [ الْأَحْقَافِ : 33 ] وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=34077هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ تَارَةً تَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ وَلَا وَاوَ فِيهِ ، وَتَارَةً تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَبَعْدَهَا وَاوٌ ، فَهَلْ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَرْقٌ ؟
نَقُولُ : فَرْقٌ أَدَقُّ مِمَّا عَلَى الْفَرْقِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : أَزَيْدٌ فِي الدَّارِ بَعْدُ وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ ؟ يَذْكُرُهُ لِلْإِنْكَارِ ، فَإِذَا قَالَ : أَوَزَيْدًا فِي الدَّارِ بَعْدُ وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ ؟ يُشِيرُ بِالْوَاوِ إِشَارَةً خَفِيَّةً إِلَى أَنَّ قُبْحَ فِعْلِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلَيْنِ قَبِيحَيْنِ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَمَا سَمِعَ مِمَّنْ صَدَرَ عَنْ زَيْدٍ هُوَ فِي الدَّارِ : أَغَفَلَ وَهُوَ فِي الدَّارِ بَعْدُ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تُنْبِئُ عَنْ ضَيْفِ أَمْرٍ مُغَايِرٍ لِمَا بَعْدَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَابِقٌ ، لَكِنَّهُ يُومِئُ بِالْوَاوِ إِلَيْهِ زِيَادَةً فِي الْإِنْكَارِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَالَ فِي مَوْضِعٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=185أَوَلَمْ يَنْظُرُوا ) [ الْأَعْرَافِ : 185 ] وَقَالَ هَهُنَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أَفَلَمْ يَنْظُرُوا ) بِالْفَاءِ ، فَمَا الْفَرْقُ ؟ نَقُولُ : هَهُنَا سَبَقَ مِنْهُمْ إِنْكَارُ الرَّجْعِ ، فَقَالَ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ بِمُخَالِفِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَفِي " يس " سَبَقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=78قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ ) [ يس : 78 ] ؟ نَقُولُ : هُنَاكَ الِاسْتِدْلَالُ بِالسَّمَاوَاتِ لَمَّا لَمْ يَعْقُبِ الْإِنْكَارَ عَلَى عَقِيبِ الْإِنْكَارِ اسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=79قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) [ يس : 79 ] ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الْآخَرَ ، وَهَهُنَا الدَّلِيلُ كَانَ عَقِيبَ الْإِنْكَارِ ، فَذُكِرَ بِالْفَاءِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ هَهُنَا بِلَفْظِ النَّظَرِ وَفِي الْأَحْقَافِ بِلَفْظِ الرُّؤْيَةِ فَفِيهِ لَطِيفَةٌ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ هَهُنَا لَمَّا اسْتَبْعَدُوا أَمْرَ الرَّجْعِ بِقَوْلِهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=3ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) اسْتَبْعَدَ اسْتِبْعَادَهُمْ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ ) لِأَنَّ النَّظَرَ دُونَ الرُّؤْيَةِ ، فَكَأَنَّ النَّظَرَ كَانَ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِإِنْكَارِ الرَّجْعِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الرُّؤْيَةِ لِيَقَعَ الِاسْتِبْعَادُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِبْعَادِ ، وَهُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ بِإِنْكَارٍ مَذْكُورٍ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ بِالرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ مِنَ النَّظَرِ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَّلَ ذَلِكَ وَجَمَّلَهُ بِقَوْلِهِ : ( إِلَى السَّمَاءِ ) وَلَمْ يَقُلْ : فِي السَّمَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الشَّيْءِ يُنْبِئُ عَنِ التَّأَمُّلِ وَالْمُبَالَغَةِ ، وَالنَّظَرَ إِلَى الشَّيْءِ يُنْبِئُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ " إِلَى " لِلْغَايَةِ ، فَيَنْتَهِي النَّظَرُ عِنْدَهُ فِي الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الظَّرْفِ ، فَإِذَا انْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ حَتَّى يَصِحَّ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَوْقَهُمْ ) تَأْكِيدٌ آخَرُ ، أَيْ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ غَيْرُ غَائِبٍ عَنْهُمْ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ وَأَوْلَوِيَّةِ الْوُقُوعِ وَهِيَ لِلرَّجْعِ ، أَمَّا وَجْهُ الدَّلَالَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَسَاسٌ ، هِيَ الْعِظَامُ الَّتِي هِيَ كَالدِّعَامَةِ ، وَقُوًى وَأَنْوَارٌ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، فَبِنَاءُ السَّمَاءِ أَرْفَعُ مِنْ أَسَاسِ الْبَدَنِ ، وَزِينَةُ السَّمَاءِ أَكْمَلُ مِنْ زِينَةِ الْإِنْسَانِ بِلَحْمٍ وَشَحْمٍ . وَأَمَّا الْأَوْلَوِيَّةُ فَإِنَّ السَّمَاءَ مَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ فَتَأْلِيفُهَا أَشَدُّ ، وَلِلْإِنْسَانِ فُرُوجٌ وَمَسَامٌّ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّأْلِيفَ الْأَشَدَّ كَالنَّسْجِ الْأَصْفَقِ وَالتَّأْلِيفَ الْأَضْعَفَ كَالنَّسْجِ الْأَسْخَفِ ، وَالْأَوَّلُ أَصْعَبُ عِنْدَ النَّاسِ وَأَعْجَبُ ، فَكَيْفَ يَسْتَبْعِدُونَ الْأَدْوَنَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِوُجُودِ الْأَعْلَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ؟ قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ : الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ لَا تَقْبَلُ الْخَرْقَ ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=3هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) [ الْمُلْكِ : 3 ] وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=12سَبْعًا شِدَادًا ) [ النَّبَأِ : 12 ] وَتَعَسَّفُوا فِيهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) صَرِيحٌ فِي عَدَمِ ذَلِكَ ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ عَدَمِ إِمْكَانِهِ ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ : " مَا لِفُلَانٍ فَالٌ " ، لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ إِمْكَانِهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ خِلَافَ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=9وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ) [ الْمُرْسَلَاتِ : 9 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=82&ayano=1إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ) [ الِانْفِطَارِ : 1 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=16فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ) [ الْحَاقَّةِ : 16 ] فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=12سَبْعًا شِدَادًا ) [ النَّبَأِ : 12 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=37فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) [ الرَّحْمَنِ : 37 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَالْكُلُّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ صَرِيحٌ ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الدَّلَالَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ ، بَلْ وَلَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ خَفِيَّةٌ أَيْضًا ، وَأَمَّا دَلِيلُهُمُ الْمَعْقُولُ فَأَضْعَفُ وَأَسْخَفُ مِنْ
[ ص: 135 ] تَمَسُّكِهِمْ بِالْمَنْقُولِ .